شئٌ عن ماضٍ حاضر

مقال منشور في جريدة الوقت 421 بتاريخ 17 أبريل /نيسان 2007

شيء عن ماضٍ حاضر
عبدالهادي خلف

العدد 421 – الثلثاء 29 ربيع الأول 1428 هـ – 17 أبريل 2007

في صيف 1961 أعلن اتحاد الأندية الوطنية في البحرين عن حصوله على موافقة حكومة الجمهورية العراقية، في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، على توفير عددٍ من المنح الدراسية في المدارس والجامعات العراقية. وكان عدد المنح قليلاً ولا يتناسب مع عدد الطلبات التي انهالت على رئيس اتحاد الأندية الوطنية آنذاك، المرحوم حسين منديل، إلا أنه لطيب أخلاقه وحبه لبلده لم يكن يرفض أحداً، بل سعى لدى المسؤولين في الخارجية العراقية وعلى رأسهم المرحوم الدكتور محمود الداود الذي أَحبّ البحرين فبذل ما يستطيع من أجل الاستجابة لطلبات حسين منديل. هكذا ارتفع عدد المقبولين للدراسة في العراق في تلك السنة ليقارب ثلاثين طالباً وطالبة بحرينية.ا

.
كنتُ من المحظوظين الذين قُبلت طلباتهم. أقولُ من المحظوظين لأن غالبية من سافروا إلى العراق لم يكونوا قادرين على متابعة تعليمهم لولا تلك المنح الدراسية. نعم، كانت درجاتنا عالية، لكن من قال إن الدرجات وحدها معيارٌ يُعتمد عليه للحصول على منحة دراسية من وزارة المعارف البحرينية وقتها

.
كانت البحرين، كلها، أو على الأصح البحرين ‘’اللي تحت’’، ممثلة بين من حصلوا على المنح الدراسية العراقية. فمنهم من أتى من ‘’زرانيق’’ المنامة و’’دواعيس’’ المحرق ومن المناطق المهملة في جدحفص والحد والرفاع الشرقي. وكان بيننا من كان متديناً ومن كان ملحداً، وكان بيننا من قيل إنهم بعثيون أو شيوعيون أو قوميون وغير ذلك. لكننا، جميعاً، كنا نعرف أننا حصلنا على فرصة ما كنا لنحصل عليها لولا أن حسين منديل ورفاقه تابعوا مسيرة قادة الهيئة وتمسكوا بحلمها بدولةٍ غير التي حَرَمتنا من فرص التعليم العالي

.
قلتُ إنني لم أكن المحظوظ الوحيد حين سافرتُ إلى بغداد. فبجانب ما يتولد عن سطوة المتنفذين وما تسببه تقارير ‘’بوب’’ استناداً إلى تقارير مخبري جهاز المباحث من معوقات، فلقد كانت ظروف المعيشة والفقرُ تفرضان على غالبية الأسر البحرينية أن تدفع بأولادها وبناتها وهم بعدُ في سنوات مراهقتهم، إلى سوق العمل.

وأنا أكتبُ هذا الآن تلوح لي صور من عرفتُ على مقاعد الدراسة الابتدائية والثانوية من براعم واعدة في الحساب والعلوم والشعر، لكنها لم تتفتح للأسف بسبب تضافر الفقر والتمييز الطبقي وسطوة المتنفذين. لا شك لدّي أن خسارة البحرين كبيرة، لأن بعض هؤلاء لم يواصل تعليمه. فلقد كانت حدود أمال غالبيتنا محصورة في العمل ولم يكن استكمال الدراسة خياراً واقعياً لأبناء وبنات البحرين ‘’اللي تحت’’. بعضنا كان يأمل في أن يجد عملاً في السوق وآخرون في بابكو، أما من تلطف ربك بهم ففي دوائر الحكومة. ا

.
ما قام به المرحوم حسين منديل ورفاقه في اتحاد الأندية الوطنية له أهمية تاريخية في مسيرة هذا البلد نحو التحول إلى وطن ودولة. أي تلك الدولة والوطن اللذان بشرت بهما هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات. وطنٌ يتساوى فيه أهله وتتكافأ حقوقهم من دون امتيازات ومن دون تمييز. دولة تقوم أجهزتها ومؤسساتها، بما في ذلك مؤسساتها الدستورية، بتوفير تلك المساواة وذلك التكافؤ وحماية حق الناس فيهما. أ

بمنظار اجتماعي، يمكن اعتبار قيام الحركة الوطنية، وما تفرع عنها من تنظيمات سياسية ومؤسسات مجتمع مدني، بابتعاث الطلبة ذكوراً وإناثاً إلى الخارج، من الأمور الكثيرة التي قد لا تبدو مهمة بمفردها وفي وقت حدوثها إلا أنها، مجتمعة ومتراكمة، تشكل البديل المضاد الذي حاولت قيادتنا نحوه الهيئة ومن سار على الطريق نفسه من بعدها. ا

تزداد أهمية ما قام به اتحاد الأندية الوطنية حين ننظر إليه، من جهة أولى، باعتباره متابعة لمسيرة بدأتها قيادة هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات حين سعت إلى توفير المنح الدراسية للبحرينيين في مصر الناصرية. أو حين ننظر إليه، من جهة ثانية، باعتباره نهجاً مضاداً لنهج النظام اعتمدته وسارت عليه من بعد الهيئة غالبية فصائل الحركة الوطنية حتى وهي تعمل في أقسى ظروف العمل السري. فطوال أربعة عقود سبقت انهيار الاتحاد السوفياتي كانت جبهة التحرير الوطني والجبهة الشعبية توفران المنح الدراسية وفرص التعليم العالي لمئات من الطلبة والطالبات في طول العالم وعرضه من موسكو إلى هافانا مروراً بجامعات العراق وسوريا واليمن الجنوبي.ا

ومع أنني لا أعرف حصراً إحصائياً لأعداد الذين كانوا يرتكبون ‘’جريمة من جرائم أمن الدولة’’ بمجرد تقديمهم طلب منحة للدراسة الجامعية، لكنني أعرف أن عدداً من مؤسسات الدولة وأجهزتها ستتوقف عن العمل لولا وجود الخريجين. ولم تتوافر لهؤلاء فرص التعليم العالي لولا الجهود المضادة للنظام التي قامت بها الحركة الوطنية بدءاً من هيئة الاتحاد الوطني مروراً باتحاد الأندية الوطنية ووصولاً إلى جبهة التحرير الوطني والجبهة الشعبية. فلقد حصل هؤلاء على فرصهم في الحياة الكريمة، كمــا حصـــل الوطن على كل ما يمثلونه من رأسمال علمي وثقـــافي. ولم يكن ذلك ممكــناً لولا أن الحــركة الوطنية كانـــت تمتلك الجرأة، وقتها، على تقديم مشــروع معارض ونهــجٍ مضــاد

.
وفي كل المراحل، نرى الاقتناع اللجوج نفسه بضرورة توفير بديل تمديني يسهم في تخطى العقبات الذهنية والثقافية والبنيوية التي ولّدها الموروث وعقود من الممارسات التشطيرية. بطبيعة الحال، لن يستطيع هذا البديل التمديني بذاته أن يلغي الموروث ولا جميع نتائج ذلك التشطير. لكنه سيوفر، في أحســن الأحوال، خــياراً عقلانيــاً وواقعياً يساعد على تخطي ما يثقل كاهل حاضــرنا ويمنــع تطــور مستقبلنا.ا

.
لا أعرف أحداً يقول إن الباكر ورفاقه أو غيرهم ممن تبعهم على الطريق نفسه كانوا يخططون لتحريم التشيع أو التسنن على من أراد أياً منهما أساساً لهويته. وبالمثل لا أظن أن عاقلاً يلوم الناس اليوم عندما يتقوقعون في الواحات الطائفية المنعزلة عن بعضها بعضاً بعد أن اقتنعوا أن أطرافاً مؤثرة في الحركة الوطنية قد تخلت عن مشروعها المضاد لإنجاز بناء الدولة الدستورية التي يستمد مواطنوها من دستورها هوية توحدهم وتغنيهم عن هويات ثانوية قائمة على الموروث القبلي والطائفي.