الدندنة الثالثة : المزاح المتاح في البرلمان
حين وصل أعضاء مجلس النواب الحالي إليه كانوا يعرفون أن مجلسهم شكلي وأن الدور المطلوب منهم أن يؤدوه لا يتعدى المساعدة في إضفاء هالة “الشرعية” على النظام. فهذه هي الحقيقة التي عرفها من قبل جميع من شاركوا في المجالس النيابية السابقة بعد إصدار دستور 2002 .
فحسب ذلك الدستور أعطى الملكُ لنفسه سلطات تصل إلى مستوى السلطات المطلقة التي كان يتمتع بها سلاطين وملوك عهود الاستبداد في القرون الوسـطى. فملك البحرين حسب دستوره هو “رأس الدولة، والممثل الأسـمى لها ، وذاته مصونة لا تُمَس، وهو الحامي الأمين للدين والوطن ورمز الوحدة الوطنية”. وللملك حق التصديق على القوانين، كما أن له حق إصدار ما يشاء منها أو تعديلها بمراسيم ملكية وقتما يشاء. وفوق ذلك حصر دستور 2002 في يد الملك وحده صلاحيات تعيين رئيس الوزراء والوزراء والسـفراء والمحافظين والقضاة وأعضاء مجلس الشـورى وأعضاء المحكمة الدسـتورية ومحافظ البنك المركزي وقادة القوات المســلحة و الأمن والحرس الوطني إلى آخر ماهو قائم وما قد يستجد من وظائف عليا.
لقد كان واضحاً من مجريات النقاشات التي جرت تمهيداً للإستفتاء على “ميثاق العمل الوطني” 2000-2001 أن العائلة الحاكمة لم تكن ترغب في أن يتولى المجلس النيابي المنتخب مهمات التشريع أو الرقابة على السلطة التنفييذية أو مساءلتها. ومع ذلك لم يستطع من صاغ الدستور أن يضمِّنه مواداً تنص صراحة على منع مجلس النواب من محاولة التاُثيرعلى السلطة عبر تشريع القوانين وعبر مراقبة السلطة التنفيذية ومساءلتها. فلجأت السلطة إلى وضع الكثير من المعيقات السياسية والإجرائية التي جعلت البرلمانات المتتالية منذ 2002 وحتى الآن تفشل في أن تُؤَثر أو تُراقب أو تُسائِل أو تُشرِّع.
من بين المعيقات السياسية التي أسهمت في ذلك الفشل وإستمراره هي التفاهمات المعلنة وغير المعلنة بين العائلة الحاكمة وممثلي مختلف التعاضديات ذات الـتأثير. تمت بعض تلك التفاهمات عبر المكرمات والعطايا أو عبر صفقات المقايضة السياسية. وجرى تسويق تلك التفاهمات تحت رايات عديدة تباينت شعاراتها: “طاعة ولي الأمر” و”درء المفاسد ودفع الضرر” عند أطراف، و”وحدة إرادة الملك والشعب” و”المحافظة على إستمرار وتيرة عجلة الإصلاح السياسي” عند آخرين. إلا أن تباين الشعارات لم يؤدِ إلى إختلاف فوائدها السياسية وغير السياسية على من رفع تلك الرايات وعلى السلطة.
بقوة تلك التفاهمات إبتدعت السلطة منذ 2002 “أعرافاً برلمانية ” جعلت مهمات التشريع والرقابة والمساءلة خارج صلاحيات مجلس النواب. وحسب هذه الأعراف صار بإمكان المجلس النيابي في البحرين أن ينشغل بما يشاء من شئون فيما عدا التشريع ومراقبة السلطة التنفيذية ومساءلتها. وحتى في تلك الشئون التي يُسمح لأعضاء مجلس النواب الحديث فيها فثمة حدود لا يمكنهم تخطيها. وهي حدود تفصلها نصوص وتفسيرات اللائحة الداخلية لمجلس النواب التي صاغتها الحكومة لهم وصدر بها مرسوم ملكي. أما حين يتجاوز نائبٌ/نائبة، عمداً أو سهواً، أحدَ تلك الحدود فعليه مواجهة تقريع رئيس المجلس وإمتعاض السلطة
الحاصل، أن شروط العمل النيابي قاسية وتفرض قيوداً مشددة على حركة النواب في حال أرادوا ذلك. وفوق ذلك فعلى النواب أن يتقبلوا من جهة إستخفاف الوزراء بهم وسخرية ناخبيهم منهم. رغم ذلك يحاول بعضهم أحياناً أن يفعل شيئاً.
ولهذا قد يجد نائبٌ/نائبة أسبابأ تدفعهما إلى توجيه إستفسارٍ لوزير حول شأن من شئون وزارته وخاصة إذا كان الوزير من غير العائلة الحاكمة. ولكن تقديم الإستفسار لا يضمن الحصول على إجابة. حينها قد يصِّر النائبُ/النائبة على مواصلة المحاولة فيسعى لتحشيد آخرين من زملائه لإستجواب الوزير المعني.
إلا أن السلطة لا تقبل تعريض وزير/وزيرة إلى الإستجواب. فما تزال ماثلة في أذهان كبار العائلة بمن فيهم الملك وعمّه رئيس الوزراء موقف أعضاء مجلس الوطني 1973-1975 الذي أجبر وزير العدل وهو كان من كبار العائلة الحاكمة على الإستقالة بسبب سوء تصرفاته وتجاوزاته.
تعرف السلطة أن لمجلس 1973- 1975 ظروفاً وتركيبة ومعطيات تختلف عن ظروف وتركيبات ومعطيات المجالس النيابية التي تشكلت في ظل دستور 2002 الملكي. رغم تلك المعرفة فهي لا تريد المخاطرة بترك الحبل على الغارب حتى ولو كانت واثقة تماماً من سيطرتها على آليات عمل المجلس وعلى أعضائه.
نعم، قد تمازح السلطة النواب حول أمور كثيرة إلا أن الإستجواب هو من الأمورالتي لا مزاح فيها. ولهذا ولكي لا تُحرج الحكومة، أدخل مجلس النواب بنفسه تعديلاً على لائحته الداخلية لا يسمح بإستجواب وزير أو وزيرة إلا بعد سلسلة من الإجراءات المعقدة من بينها موافقة لجنة خاصة تقوم بـ “فحص جدية الإستجواب”. وحتى الآن لم تجد اللجان المتتالية جدية في أيٍ من محاولات النواب لإستجواب الوزراء.
وهكذا فلا غرابة ألا يجد النواب في البحرين وسيلة لتمضية الوقت سوى الدخول في نقاشات ومعارك كلامية في الجلسات العامة وفي قاعات اللجان المتخصصة. ينقل الإعلام الرسمي بعضأ من النقاشات ويشير إلى تلك المعارك. ومن جهتهم ينقل النواب المعنيون عبر وسائل التواصل الإجتاعي أجزاءَ حماسية من مداخلاتهم في تلك الجلسات لطمأنة قلوب مناصريهم وللتمهيد لإنتخابات قادمة.
من الإنصاف الإشارة إلى أن بعض تلك النقاشات والمداولات تتمخض أحياناً عن تشكيل لجان تحقيق في هذا الموضوع أو ذاك. وخاصة إذا كان المقصود بالتحقيق وزارة “غير سيادية” ولا ينتمي وزيرها إلى العائلة الحاكمة. بعد ذلك تأخذ لجنة التحقيق ما تحتاجه من وقت. فقد تحتاج أسابيعاً أو شهوراً قبل أن يكتب الموظفون والمستشارون تقريراً تتم مناقشته حسب الأعراف السارية. فيفرح الجميع.
و يبلغ الفرح، أحياناً، أقصى مداه حين يتمخض تقرير لجنة التحقيق والماقشات حوله عن توصيات يتم التصويت عليها. لهذا أصبحت التوصيات النيابية هي غاية المنى. بل هي قمة العمل البرلماني. فبتلك التوصيات يستطيع النائب/النائبة المفاخرة أمام الناس تمهيداً لترشحهما في إنتخابات القادمة. يكرر النائب/النائب المفاخرة بالتوصيات حتى مع علمهما أن السلطة لن تأخذ بتلك التوصيات ولن يتولد عنها تغيير تشريعي أو إداري.
تتضمن “الأعراف البرلمانية” السارية منذ 2002 وخاصة حين يكون موقع الوزير/الوزيرة المستهدف متدنياً في الهرم الوزاري أن يقوم النائب/النائبة بإصدار بيان مختصر يعبر عن غضبهما ينشرانه عبر وسائل التواصل الإجتماعي. . وفي حال توافرت مواصفات معينة في النائب أو في الوزير المستهدف فقد تقوم الصحف الرسمية بنشر البيان. إلا إن “الأعراف البرلمانية” تحصر صياغة البيان الغاضب في قوالب معروفة. فهو قد يأتي في صورة أسئلة متتالية موجهة للوزير حول قضية عامة من قبيل “ألا تعلم أن التركيبة السكانية قد تغيرت….؟”. أو قد يأخذ شكل تهديد مبطن من قبيل “سوف نشكل لجنة تحقيق…” أو “سوف نتوجه إلى تقديم سؤال نيابي….”.
المناشدات و إستكمال اللعبة البرلمانية
حين تفشل محاولات منع الوزير من الإستخفاف بأسئلة النائب/النائبة وتوصياتهما وبياناتهما فلن يجدا مفراً من أن يُشْهرا عليه أخطر الأدوات العمل البرلماني المتاحة لهما. ويأتي هذا السلاح في صورة مناشدة يقفز بها النائب/ النائبة فوق رأس الوزير ليوجهها مباشرة إلى رئيس الوزراء أو ولي العهد أو إلى الملك نفسه.
ليس بعد المناشدات الموجهة لواحدٍ من ثلاثي “القيادة السياسية” مجالٌ للمزاح. تختلف مواضيع المناشدات من أمور الصحة أو البيئة إلى التوظيف إلى الخدمات إلا إنها تأتي في قوالب جاهزة تتقبلها السلطة. فلابد من توجيه المديح ل “القيادة السياسية” ولا بد من التأكيد على الثقة في حكمة القرارات التي ستتخذها بعد قراءة المناشدة لها “بالتدخل الحاسم في قضية (… إملأ الفراغ…) وإعطائها بعدها الوطني وبما تستحقه من جدية وألا يترك مصير (.. إملأ الفراغ…) في أيدي متنفذين يمارسون نهجاً مدمراً على أسس أصبحت مكشوفة للجميع
أعطت “المناشدات” التي يوجهها النواب إلى السلطة في وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل الإجتماعي بعداً إضافياً للتكاذب كأداة لازمة من أدوات العمل السياسي في العهد الملكي. يعرف النائب/النائبة حين يكتبان مناشدتهما أن “القيادة السياسية” هي نفسها التي رسمت السياسة العامة وإتخذت القرارات التي يشتكي النائب/النائبة منها. بل هما يعرفان أيضاً إن “القيادة السياسية” هي التي إختارت ذلك الوزير وطاقمه لتنفيذ سياستها ومتابعتها. ولكن النائب/النائبة يتظاهران إنهما يجهلان ذلك كله فلا يشيران إليه. من جهتها تعرف “القيادة السياسية” أن النائب/النائبة يلعبان دورهما البرلماني حسب شروطها. وهي تعرف أن أقصى ما يريدان هو الدخول مع الوزير في معركة كلامية ينقلها الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعية.
بعد جهودٍ شاركت فيها مجالس النواب المتتالية منذ 2002 إكتملت شروط اللعبة البرلمانية في البحرين. وصار من حقوق النواب المكتسبة مماحكة الوزراء من خارج العائلة الحاكمة ضمن حدود ضيِّقة تقررها الأعراف البرلمانية واللائحة الداخلية والتفاهمات التي أوصلت هذا النائب أو تلك النائبة إلى المجلس. تزداد تلك الحدود ضيقاً في كل دورة برلمانية وتتقلص جراء ذلك قدرة النواب على تحقيق إنجاز حفيقي في قاعة المجلس النيابي وعن طريق إستخدام الأدوات المتاحة لتشريع القوانين والرقابة على السلطة التنفيذية ومساءلتها.
بسبب قلة إنجازات العمل البرلماني يواجه النواب صعوبتيْن. الأولى هي إقناع الناس بجدوى بقاء المجلس النيابي بالشروط الذي تكبله بها المراسيم الملكية والأعراف البرلمانية التي أُستنت طبقاً لدستور 2002. الصعوبة الثانية هي إقناع الناخبين بجدوى إعادة إنتخابهم بالذات وهم الذين إرتضوا أن تتحكم السلطة التنفيذية ومن خلفها الملك وعائلته بقراراتهم وصلاحياته
لمواجهة هاتيْن الصعوبتين يتحاشى النواب الحديث، ناهيك عن العمل، عن تعديل الدستور الملكي وإلغاء القيود التي تفرضها المراسيم الملكية المتتابعة بما فيها اللائحة الداخليةعلى العمل البرلماني. بدلاً من ذلك ترتفع بورصة المناشدات التي يطلقها النواب فرادى أو جماعات لتتناقلها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي. على أمل أن يظن الناخبون أن نائبتهم/نائبهم قد حاولا أن يفعلا شيئاً. ولقد رأينا كيف أصبحت المناشدات، وليس التشريع والمراقبة، ملاذاً يستطيع النواب اللجوء إليه كلما تمادت السلطة في إستبدادها وكلما وصلت إلى قمتها مشاعر الإحباط والغضب بين الناس.