دندنة ثانية:
هشاشة الوجاهة في العهد الملكي
لم تعدْ أحوال الوجهاء في العشرين سنة الأخيرة كما كانت في السابق. بل يمكن القول دون مبالغة أن أحوال الوجهاء في البحرين الملكية صارت أحوالاً يُرثى له بمقارنتها بأحوال أمثالهم في بلدان الخليج الأخرى. أو حتى بمقارنتها بأحوال ونفوذ الوجهاء قبل العهد الملكي.
كان لشريحة الوجهاء في الماضي دورٌ أساسي في ضمان إستقرار حكم العائلة الحاكمة في البحرين. فلقد كانت العائلة الحاكمة تتتعاطى في غالب الأحوال مع الرعية عبر وســطاء ’معجومين‘ موثوقين في كل طائفة وقبيلة ومنطقة. وكان للوجهاء مراتب مختلفة حسب قربهم من كبار العائلة الحاكمة وأصحاب القرار فيها. وكان كل وجيه يعرف مرتبته ومجاله وحدوده فلا يتعداها. كما كان يعرف إن وجاهته مؤقتة ومشروطة برضا العائلة الحاكمة وبمقدار حاجتها لدوره في خدمتها.
ومع ذلك كان للوجيه هيبة في نظر الناس الذين ينتظرون منه السعي للإهتمام بشئونهم وتخفيف معاناتهم. فكان متاحاً للوجيه أن يتوسط لدى هذا المسئول أو ذاك لصالح جماعته لتوفيرمكرمة في شكل وظيفة أو سكن أو تأجيل ديْن وما إلى ذلك مما يحتاجونه من خدمات. مقابل ذلك على الوجيه ضبط تابعيه وتصبيرهم بمختلف الطرق بمافيها أن يبشرهم بين الحين والآخر إن الشيوخ أبلغوه السلام وقالوا “يصير خير”. وحين تفلت الأمور من يد وجيهٍ لأيِ سبب من الأسباب يستبدله ولاة الأمر بأحد إخوانه أو بأحد أبناء عمومته، وأحيانا بغيره من طائفته أو قبيلته أو منطقته.
كان “تدوير الوجهاء” أحد أبرز سمات الحكم لفترة إمتدت منذ 1869 أي منذ أن فرض البريطانيون الإستقرار في البلاد بعد إستدعائهم عيسى بن علي من الزبارة لتعيينه حاكماً على البحرين. بعدها وطيلة مايقارب القرن ونصف القرن كان “تدوير الوجهاء” أحد وسائل إستعادة الإستقرار وتثبيته كلما حصل تذمر بين أفراد طائفة أو قبيلة أو منطقة. وطيلة تلك الفترة أيضاً تعوَّد الوجهاء، من كل طائفة وقبيلة ومنطقة، على قبول حق العائلة الحاكمة في إستبدالهم بآخرين. وما كان لهم ألا يقبلوا بعد أن أخذوا العبرة تلو الأخرى مما أصاب وجهاءً تمرَّدوا فجُرِّدوا من أملاكهم وتم تهجيرهم من البلاد إما طوعاً أو بمساعدة سلطة الحماية البريطانية.
مع بداية العهد الملكي وخاصة في أثناء فترة تحضير ميثاق العمل الوطني برزت مؤشرات لتغييرات ستطال دور الوجهاء التقليديين بإتجاه تقليصه وليس إلغائه تماماً. وأخذت تلك المؤشرات تتبلور شيئاً فشيئاً بعد الإستفتاء على الميثاق وخاصة بعد إنتظام دورات المجلس النيابي منذ 2002. فمنذ ذاك تبيّن الوجهاء التقليديون أن أجزاءً معتبرة من مبررات وجاهتهم قد بدأت تتسرب من أيديهم لصالح فئات صاعدة من الوجهاء الجدد بمن فيهم أعضاء في مجلسيْ النواب والشورى ونشطاء وناشطات المجتمع المدني وعدد متزايد ممن درجت تسميتهم/تسميتهن بـ “المؤثرين/المؤثرات” في المجتمع.
وجد الوجهاء الجدد في الجمعيات السياسية ومكونات المجتمع المدني بما فيها جمعيات حقوق الإنسان قاعدة ينطلق نشاطهم منها ويوفر لكثيرين منهم عزوة يفتقدونها. خلال تلك الفترة إزداد إهتمام ثلاثي “القيادة السياسية” بتكليف عناصرمنتقاة من بين هؤلاء لأداء مهمات كانت مخصصة في السابق للوجهاء التقليديين.
تكررت في تلك الفترة الأمثلة على مكرمات قدمها الملك أو رئيس الوزراء أو ولي العهد إلى مواطنين من خلال الوجهاء الجدد. ففي السنتيْن 2000-2002 تكفل الديوان الأميري، مثلاً، بتمويل عدد من المؤتمرات والندوات وحتى الحفلات الموسيقية التي تولى الوجهاء الجدد تنظيمها عبر جمعياتهم السياسية وغير السياسية. وبعد تدشين العهد الملكي في 2002 إزدادت المكرمات التي عُهد لبعض النواب من الطائفتيْن وغيرهم من الوجهاء الجدد توفيرها للرعية. وصار متاحاً لهم أن يتوسطوا لدى القيادة السياسية الجدد لتوفير ما يحتاجه الناس من خدمات كتوفير سكن لمواطنٍ أو وظيفة أو مصروف علاج في الخارج. بل و حتى تمويل حفلات الزفاف الجماعي لمئات الأفراد في مختلف مناطق البلاد.
سوق الوجاهة: عرض وطلب
تدريجيا ولكن بثبات أخذت قوانين السوق تلعب دورها الإعتيادي. فلقد إزداد المعروض في سوق الوجاهات وإزداد عدد الطامحين إلى دخولها وتعددت فئاتهم ومؤهلاتهم. فوجدت العائلة الحاكمة إنها غير مضطرة لحصر خياراتها في أبناء وبنات العوائل التجارية ولا حتى أبناء وبنات القبائل التي شاركتها غنائم فتح البحرين في 1783.
أضاف العهد الملكي إلى سوق الوجاهة مئات الوجهاءالجدد بمن فيهم أصحاب أعمال عصاميين وأبناء وبنات الطبقة الوسطى في المدن والقرى ممن حصلوا على شهادات عليا من جامعات معتبرة في الخارج. ساهم هؤلاء في توسيع سوق الوجاهة وتعديد أبواب دخولها. وهم وفروا أيضاً للعهد الملكي مخزوناً لا ينضب من الكوادر الطموحة والأكثر تأهيلاً لتشغيل المؤسسات الجديدة التي تطلبَّها تدشين “العهد الإصلاحي”. ومن بين العديد من المؤسسات التي أوجدها العهد الملكي يبرز المجلس النيابي ومجلس الشورى بالإضافة إلى إمتدادات السلطة في المجتمع المدني والتنظيمات السياسية.
رغم ذلك، ما كان البحرُ رهْواً، حسب عنوان كتاب مهم وثّق بعض بدايات تلك الفترة. فالبحرين صغيرة ولسوق الوجاهة فيها حدود لا تتسع لجميع الطامحين في الدخول إليها. وفوق ذلك تتقلص الموارد المالية ومجالات النفوذ التي تستطيع السلطة إستثمارها فيهم أو تخصيصها لهم. فخلال الدورات النيابية المتتالية منذ 2002 ، وحدها، دخل سوق الوجاهة العشرات عبرعضوية مجلس النواب ومجلس الشورى. كما دخلها المئات ممن تم تجنيسهم وخاصة من ذوي المهارات الفنية والأمنية والعسكرية.
الحاصل إن سوق الوجاهة صارت تشهد تزاحماً بين الطامحين في دخولها وتزاحماً أشد بين المتكالبين على البقاء في الصدارة فيها. بدورها تبيَّنت السلطة أن من مصلحتها أن تشجع التزاحم بين وجهائها بل وأن تؤججه لما يتيحه لها من حرية أكبر في تدوير الوجهاء. كما أن إشتداد التزاحم يعطي السلطة، رغم تناقص مواردها المالية، قدرة أكبر على منع أي وجيه/وجيهة مهما إرتفعت مكانتهما من نسيان أنها صاحبة الفضل، وأن الأمر لها أولاً وأخيراً. فليس مسموحاً لوجيه/وجيهة أن ينسيا إنهما ما وصلا إلى ما وصلا إليه إلا برضاها ولن تبقى وجاهتهما إلا برضاها.
ثم جاءت إنتفاضة دوار اللؤلؤة في 2011 وتبعتها تداعياتها المأساوية بما فيها ما حلّ بالبلاد وأهلها بعد إستدعاء القوات السعودية وإعلان حالة الطوارئ.
وهنا لن أتعرض للأحداث الفظيعة التي شهدتها البحرين في فترة قمع إنتفاضة الدوار وما تلاها. وهي فظائع تم توثيقها في كتبٍ وتقارير بحثية وإطروحات جامعية كما وثّقها تقرير البسيوني الذي إستدعاه الملك نفسه فجاء تقريره بمثابة لائحة إتهام للسلطة. عوضاً عن ذلك سأكتفي بالإشارة إلى أن من أبرز تداعيات إندلاع الإنتفاضة وتداعيات قمعها هو إقتناع ثلاثي “القيادة السياسية” بإنحسار تأثير الوجهاء القدامى والجدد على الشارع.
ويبدو أن ذلك الإقتناع تطلب تشديد شروط القبول لدخول حظيرة الوجهاء. فمنذ منتصف 2011 لم يعدْ كافياً لكسب رضا العائلة الحاكمة رفع شعارات “طاعة ولاة الأمر” أو “درء المفاسد” أو “وحدة إرادة الملك والشعب”.
يمكن الإشارة هنا إلى عددٍ من الإجراءات، غير المباشرة، التي إتخذتها السلطة لإبلاغ الوجهاء بالشروط الجديدة التي يتطلبها إستمرار وجاهتهم. فعلاوة على إصدار الأحكام القضائية القاسية بحق عددٍ كبير من قادة المعارضة ورموزها ونشطائها بما فيها السجن لمدد طويلة قامت السلطة بنفي وتهجير آخرين علاوة على تجريد المئات من جنسيتهم البحرينية. كما قامت بفصل نشطاء المعارضة من وظائفهم وضيّقت على أصحاب الأعمال منهم. ثم أتبعت ذلك بحل عددٍ من أهم الجمعيات السياسية. ثم أدخلت تعديلات على القوانين السارية منعت بموجبها “قيادات وأعضاء الجمعيات السياسية المحظورة” من ممارسة حقوقهم المدنية. لا فرق هنا بين الترشح في إنتخابات نيابية أو المشاركة في ندوة متخصصة. بإختصار صار على من أراد أن تقبله السلطة وجيهاً أن يقبل بشروطها المستندة على شعار “من هو ليس معنا هو ضدنا”.
لقد وجد الوجهاء الجدد خلال السنوات العشر الأولى من حكم حمد في الجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني قاعدة ينطلق نشاطهم منها ويوفر لهم عزوة يفتقدونها. إلا أن الأحوال تغيرت بعد 2011 حين أصبح كل نشاط سياسي وإجتماعي مهما كان نوعه موضوعاً أمنياً يستوجب المواففة عليه وتحمل تبعاته. وفوق ذلك فإن الأوضاع التي إستجدت بعد إنتفاضة دوار اللؤلؤة وإعلان حالة الطوارئ في 2011 فرضت على الوجهاء وخاصة الجدد منهم التنافس بأشكال أكثر فجاجة عما قبل. وهنا تبرز أهمية مهارات الوقاحة والإبتذال والتزلف ويزداد التنافس على ما تسمح لهم “القيادة السياسية” أن يتنافسوا عليه.