أربع دندنات حول إلتماسات الوجهاء ومناشدات النواب – 1

دندنة أولى:

صحيفة الإلتماس

في نهاية الشهر الماضي نشرت الصحف المحلية تقاريراً تناقلتها وسائل الإعلام الأخرى عن قيام 150 شخصية برفع  ما سموها “صحيفة التماس” إلى الملك  يلتمسون فيها استمرار حزمة الدعم الاقتصادي التي طرحتها الدولة خلال الثلاثة أشهر الماضية. وكرر موقعو الإلتماس “أن توجيهات جلالة الملك والقيادة السياسية قد أثمرت تحقيق مزيد من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في ظل الأوضاع الاستثنائية التي تسببت فيها جائحة كورونا”.

وإهتمت التقاريرالإعلامية بتكرار الإشارة إلى أن موقعي “صحيفة الإلتماس” هم  “نخب اقتصادية وأكاديمية  ومجتمعية ونواب وشوريون سابقون وقيادات رأي وقيادات مدنية وأعضاء مؤثرون في الشارع التجاري والمصرفي في البحرين”.

لم تُنشر قاائمة كاملة بأسماء الشخصيات التي وقعت ذلك الإلتماس. ولكن ما نُشر منها يضم بالفعل مجموعة من الشخصيات المعتبرة وذات الحيثية.  أعرف منهم عدداً وأعرف عن آخرين وعلى أساس هذه المعرفة لا أشك في أن حب الخير للبحرين وأهلها هو ما دفع غالبيتهم للمشاركة في توقيع ذلك الإلتماس.   إلا إن هذا القول لا يمنعني من النظر إلى تقديم “إلتماس” كأحد علامات درجة الإنحدار التي وصلت  البحرين إليه في العشر سنوات الأخيرة.  هم يعرفون إن العائلة الحاكمة تريد تعويد الناس على التخلي عن  المطالبة بالحقوق. وتريد تعويدهم بدلاً من ذلك على إلتماس المكرمات بإعتباره أسفل درجات الخنوع. ولكن ماذا تفعل نخبٌ موالية حين تجد أن  البرلمان ليس قادراً أو مؤهلاً وحين تجد تنظيمات المعارضة محظورة وجمعيات المجتمع المدني مكبلّة بقرارات  وإجراءات أمنية؟ في نهاية الشهر الماضي وجد هؤلاء أن لا حول لهم سوى توجيه رسالة إسترحام يلتمسون فيها أن تقوم “الدولة” بواجباتها.

في القائمة المنشورة أسماء عشرات الأكاديميين من العاملين في الجامعات ومن المحامين وغيرهم من “النخب المؤثرة”.   بل أن من بينهم الأمين العام للمنبر التقدمي الذي تمثله في البرلمان الحالي كتلة برلمانية من شخصين أحدهما في منصب نائب رئيسة المجلس.  

كشف تقديم “صحيفة الإلتماس”  مدى سوء الأوضاع في البحرين.  فها نحن نشهد كيف تُضطر النخب في 2020  إلى  العودة مائة سنة إلى الوراء بلجوئها إلى تقليدٍ إستخدمه أسلافنا في عشرينيات القرن الماضي.  وقتها كان الناس جميعاً “رعايا” لحاكمٍ خليفي تحميه سلطات الحماية البريطانية.  ولم يكن أمام قيادات المجتمع وسيلة لرفع الضيْم سوى تدبيج  الإلتماسات إما  لتخفيف عَسَـف سلطة الإستعمار أو لتخفيف عَسَـف الحاكم الخليفي.  

تغيرت الأوضاع في البلاد بعد أن وضعت أنشطة هيئة الإتحاد الوطني (1954-1956)  حداً لذلك التقليد.   ثم سارعلى نهجها جميع الأنشطة والتحركات التي قادتها فصائل الحركة الوطنية. وهي تحركات أسهمت في حدوث التغييرات السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي شهدتها البحرين طيلة السبعين سنة الماضية.       

إلا إن من الإنصاف أن ننظر إلى  إضطرار  النخب إلى العودة إلى تقليد “الإلتماسات” بإعتباره واحداً من تداعيات الأزمة السياسة/الأمنية التي تفاقمت منذ بدء العهد الملكي في 2002.  وهو مؤشر أيضاً على إنسداد كل المنافذ الأخرى لإصلاح الأوضاع في البلاد.  وإلا لمَ لمْ  يجد مائة (أو مائة وخمسون) من غير المعارضين ومن غير المشكوك في ولائهم وسيلة سوى  تقديم “صحيفة إلتماس” إلى الملك ” يلتمسون فيها مجموعة من الرغبات الوطنية التي من شأنها تخفيف العبء على عامة الناس والمؤسسات الغيرة والمتوسطة”.

من جهة أخرى، لا يمكن التقليل من مغزى سماح السلطة بتقديم ذلك الإلتماس ولا من معاني ضجة الترويج له في أجهزة الإعلام الرسمية.  فهو فعلاً  حدثٌ غير إعتيادي بسبب عدد موقعيه وخلفياتهم.  وفوق ذلك،  يأتي ذلك الإلتماس بعد تسع سنوات من قمع إنتفاضة الدوار في 2011 . فطيلة تلك السنوات الماضية تحاشي أفراد هذه النخب وخاصة “المؤثرون في الشارع التجاري والمصرفي في البحرين”  شبهات المشاركة في جهد جماعي يتوجه إلى السلطة مطالباً اً أو حتى مناشداً أو ملتمساً. 

سبق نشر ذلك الإلتماس وترافق معه قيام الإعلام الرسمي بنشر أخبار عن قيام أعضاء في المجلس النيابي بمناشدة “القيادة السياسية”  كي تتكرم بإعطاء توجيهاتها إلى هذا الوزير أو تلك الوزيرة لحلحلة معيشيةعالقة.  وتكرر أغلب المناشدات المديح التقليدي للتوجيهات التي تكرمت بها “القيادة السياسية” التي “لا تتوانى عن دعم المواطنين والإهتمام بقضاياهم المعيشية”.  وأحياناً يبالغ  النأئب المنافق في تزلفه  فيضيف أنه يستشعر “إهتماما مستمرا ومخلصا من قبل سمو رئيس الوزراء بكل ما يخص المواطنين ….على الرغم من عدم جدية وفاعلية بعض المسؤولين في أكثر من وزارة”.

لسوء  حظ من تفاءلوا وظنوا بالملك خيراً لم يتأخر رد “القيادة السياسية”  على إلتماس الوجهاء وعلى مناشدات النواب. فبعد أقل من ثلاثة أسابيع على تقديم ذلك الإلتماس وما رافقه من ضجيج المناشدات أعادت “القيادة السياسية” تأكيد ما ينكره الموالون لها.  أي أنها سلطة إستبدادية لا تقبل أن يتدخل أحدٌ من الرعية في شئونها.    

لا يستغرب من يعرفون شخصية الملك ألا يتعاطى  مباشرة مع مقدمي الإلتماس رغم أنهم من النخب التي لا يمكن إتهامها بمعارضة النظام.  ولا يستغرب  أيضاً  من يعرف التقاليد التي أُبتدعت خلال العقديْن الماضييْن  أن يكون الشحص الذي يخاطب  “النخب” في البلاط الملكي ليس الملك أو ولي عهدهأو عمه رئيس الوزراء  أو حتى وزير الديوان بل أحد موظفي ذلك الوزير.

بعد أيام من إستلامه إلتماسهم  إتصل الموظف بهم لطمأنتهم إنه أوصل  الإلتماس إلى وزير الديوان وإنه، أي الوزير، طلب منه إبلاغهم بأن “يصير خير”.  

لم تدم فرحة مقدمي الإلتماس طويلا.  فبعد أقل من ثلاث أسابيع على تسليم “صحيفة الإلتماس” و خلال أيام متتالية أتخذت “القيادة السياسية” ثلاثة قرارات ظالمة كان يمكن أن تستثير على الأقل غضب أولئك الوجهاء بشرّوا الناس بتكرارهم  وعوداً نقلها لهم موظفو الديوان الملكي.  

في 13 يولي أصدر الملكُ مرسوماً (21/2020 )  سيتم بموجبه تحميل المتقاعدين أعباء إضافية علاوة على إيقاف بعض حقوقهم المكتســبة بما فيها الزيادة السنوية على معاشات تقاعدهم.   وفي نفس اليوم أصدر الملك مرســوماً آخر(23\2020) سيتم  بموجبه إيقاف “الاقتطاع من إيرادات النفط المرصود لصالح حساب احتياطي الأجيال القادمة” علاوة على سحب  450 مليون دولار من ذلك الحساب لدعم الميزانية العامة”.  وفي 17 يوليو صدرت تعديلات على قانون ديوان الخدمة المدنية تمنع  الموظف الحكومي من ممارسة حقوقه في التعبير عن الرأي بما فيها أن “يوجّه النقد لسياسة الحكومة وقراراتها بأي وسيلة من الوسائل”.

لن  يجد الوجهاء غضاضة في تأخير رد السلطة على إلتماسهم. وقد لا يجدون غضاصة في تجاهلها الموضوع برمته.  فما حدث لهم لا يختلف عن الهوان الذي إرتضاه ويرتضيه زملاؤهم في مجلس النواب. وعلى أية حال فللوجهاء كما يفعل النواب دائماً  أن يشكروا “القيادة السياسية”، بعد شكر الله،  التي سمحت  لهم بالتقدم نحوها بإلتماسهم في وقتٍ تحرم فيه بقية الناس من الشكوى.