قبل 62 سنة في البحرين

قبل 62 سنة بالضبط في الثاني من ديسمبر 1954 أصدرت هيئة الاتحاد الوطني البلاغ رقم 8 الذي جاءت فيه هذه الفقرة المعبِّرة

ا“إنه لمن المؤسف حقاً أن نعلن للشعب الكريم أن جميع المحاولات التي قمنا بها في السابق والمقابلات والاتصالات الأخيرة لم تأتي بنتيجة لحل قضايانا انما كانت أقرب إلى المناورة وتخدير الأعصاب واكتساب الوقت”ا

مضت ستة عقود على نشر ذلك البلاغ الذي لا تظن أن كاتبه هو المرحوم عبدالرحمن الباكر أو ربما أحد قادة الهيئة الآخرين رحمهم الله بل تحسبه أحد قادة الجمعيات السياسية في ديسمبر 2014. تكشف الفقرة أعلاه عن شدة الصدمة التي أصابت قيادة الحركة الوطنية آنذاك من عنجهية السلطة الخليفية التي إستخدمت فترة “الحوار” مع ممثلي هيئة الإتحاد الوطني لكسب الوقت الذي أتاح لها ترتيب أوضاعها الداخلية وعلاقاتها الخارجية و التخطيط للإجراءات المناسبة لإجهاض الحراك الشعبي. ستون عاماً والحال في البحرين هو كما وصفته بيانات هيئة الإتحادالوطني منذ بلاغها الأول في 13 أكتوبر 1954. فرغم إختلاف الأساليب اللغوية ما زالت المطالب الشعبية هي نفسها التي طرحتها الهيئة في ذلك البلاغ وفي مقدمها “تأسيس مجلس تشريعي يمثل أهالي البلاد تمثيلاً حقيقاً”.ا

منذ الخمسينيات وحتى الآن إستخدمت السلطة الخليفية نفس التكتيك في تعاطيها مع حراكات الحركة الوطنية. فهي تواجههم بالعنف والإعتقالات والنفي وقطع الأرزاق وبتحشيد ما يتيسر لها من إعلام في الداخل والخارج للتشكيك في وطنية المعارضين وفي شعبية مطالبهم. فإن فشلت تلك الإجراءات أرفقتها بكمية معتبرة من الوعود بإصلاحات سياسية وإقتصادية ومعيشية (من قبيل توفير فرص العمل للعاطلين و توفير مسكن لكل مواطن). فإن فشلت هذه الوعود في إقناع الناس حرّكت السلطة الخليفية وسطاءها من الوجهاء والمتمجدين , بل وقد تستنجد بوسطاء من الخارج. يقوم هؤلاء فرادى أو بتنسيق الجهود, بحملات مركزةلإقناع من يرضى من قيادات المعارضة إن البلد في خطر بسبب تشدّد “الحرس القديم” و تطرف بعض أطراف في المعارضة. ويعرض الوسطاء الحل في أن “يتفق المعتدلون في السلطة والمعارضة على مسار واقعي للإصلاح يأخذ بعين الإعتبار الخصوصية البحرينية وأوضاعها الإقتصادية ناهيكم عن الظروف الإقليمية وعن قلق دول الجواروفي مقدمها السعودية…….”الخ

تتكرر نفس الحكاية في أعقاب كل حراك. نعم, نلاحظ فمنذ منصف الخمسينيات و حتى الآن إختلاف الحجج والأخطار المحدقة التي يطرحها الوسطاء بإختلاف خلفيات الوسطاء والأدوار المناطة بكلٍ منهم. كما تختلف “الحلول” التي يطرحونها سواءً في شكلها أو تفاصيلها. وفي كل مرة حين تستجيب قيادات المعارضة, أو بعضها, لتلك الضغوط والوساطات تجد إنها وقعت في مأزق لا خروج منه إلى عن طريقيْن.

أولهما أن تتنازل عن مطالبها وعن جمهورها الذي وثق بها وجعلها قيادات. عندها تبيع جمهورها وآمالهم فيها مقابل تحسينات شكلية لا تمسّ بالأسس التي تستند عليها السلطة الخليفية. في كل مرة ينجح الوسطاء في مساعيهم وتنجح السلطة الخليفية في إقناع رموزٍ وقيادات معارضة نرى أيضاً كيف تنضوي تلك اقيادات تحت راية السلطة لتصبح شيئاً فشيئاً من جملة ما تمتلكه السلطة من ترسانة الوجهاء والمتمجدين. أقول هي تحسينات شكلية لأنها لا تمس جوهر الأزمة التي تعاني منها البلاد منذ عقود ولا تجيب على الأسئلة المتولدة عنها: هل ستبقى البحرين غنيمة “غزو/فتح” 1783؟ هل ستبقى البحرين ملكاً خالصا لآل خليفة؟ هل سيبقى أهل البحرين على إختلاف خلفياتهم رعايا لسلطة غازية أم مواطنين متساوين في دولة حديثة؟ ا

أما الطريق الثاني أمام القيادات والرموز الصامدة والتي أفلتت من الإنبهار ببريق ذَهَب السلطة الخليفية ولم تجفل لسماع صليل سيوفها فيتمثل في العودة إلى إلى البداية, أي المواجهةوهذا هو بالضبط ما أعلنه البلاغ رقم 8.

أعود الآن إلى ذلك البلاغ وأستعيد بعضاً من سيرة الهيئة رغم إقتناعي بأنه لا يمكن اليوم إستخدام التكتيكات التي لجأت إليها هيئة الإتحاد اوطني قبل ستين سنة. إلا أنني أرى إنها توفر مخزوناً تاريخيا يمكننا أن نستفيد من عِبَره. لم تكن قيادة هيئة الإتحاد الوطني ساذجة حين عوّلت, في البداية, على إن السلطة ستستمع لصوت العقل بدلاً من الإستماع “إلى الدساسين الذين يبثون الأراجيف والإشاعات الكاذبة”. ولكنها كانت غير واقعية حين توقعت أن تستجيب السلطة الخليفية لتلك المطالب على تواضعها.  فبعد شهرين من المماطلة تخللتها حملات تخويف وتشويه سمعة قيادات الهيئة أدت إلى إنسحاب بعض نشطاء الهيئة, وجدت قياداتها أن لا مخرج أمامها سوى إتخاذ إجراءات تصعيدية ضد السلطة.

لم يكتفِ البلاغ رقم 8 بإعلان الأسف على “فشـل جميع المحاولات التي قمنا بها في السـابق”. بل أعلن, وبتواضع ملحوظ , إن الهيئة التي تعتبر نفسها “أداة التعبير عن إرادتكم”, تواجه ضغطاً شعبيا عليها بسبب “مضاعفة الشعور بالإستياء العام بين الأفراد والجماعات منكم”. لهذا وجدت قيادة الهيئة إن مواجهة تعنت السلطة وصلفها يتطلب ما هو أكثر من التباكي على إخلال السلطة أو وسطائها بالوعود.  ولهذا أشار البلاغ رقم 8 إلى إتخاذ خطوة تصعيدية تمثلت بإعلان “الإضراب العام الشامل” بدءً من صباح 4 ديسمبر وحتى مساء 10 ديسمبر 1954. من نافل القول الإشارة إلى ذلك الإضراب كان علامة مهمة في تاريخ حركتنا الوطن.  وهو موضوع يستحق العودة إليه ودراسته

لن تستطيع الحركة الوطنية بمكوناتها الآن تكرار تلك التجربة, أي إعلان إضراب عام شامل, فلقد تغيرت كثيراً التركيبة السكانية والإجتماعية في البحرين عما كانت عليه قبل ستين سنة. فلدى السلطة الخليفية أجهزة عسكرية وأمنية شرسة و كما صار لديها ترسانة من القوانين التي أثبت المحاكم إستعدادها لتطبيقها حسبما تريد السلطة الخليفية. ا , كما رأينا منذ 15 مارس 2011. فهي لم تتوانَ السلطة الخليفية و أجهزتها الأمنية والعسكرية والقضائية  عن إنتهاك كل المحظورات داست على كل مواثيق حقوق الإنسان ناهيكم عن القيم والأعراف الإجتماعية والدينية.   علاوة على ذلك فإن وجود مثات الألوف من العمال المهاجرين وعشرات الألوف من المجنسين يجعل تكرار ما فعله آباؤنا وأمهاتنا قبل ستين سنة غير ممكناً. ولا يمكن في هذا الصدد تجاهل ما أنجزته السلطة الخليفية في أثناء فترة التواصل بينها وبين بعض قيادات المعارضة. فبجهود وسطاء داخليين وخارجيين وحوارات معلنة وغير معلنة طيلة السنوات الأربع الأخيرة تمكنت السلطة الخليفية من  حصْر حراك المعارضة في حيِّز جغرافي محدود.  فلقد أصبحت عاصمة البلاد منطقة محظورة بعد  تجريم كل أنواع النشاط السياسي في شوارعها وأماكنها العامة.  وشيئاً فشيئا  توسعت المناطق المحظورة . علاوة على ذلك إزدادت  محاصرة النشاط السياسي عبر عدم الترخيص بها أو عبر سحب التراخيص الصادرة .

لقد أسهمت تلك التغيرات والإجراءات في فرض إعادة رسم الخريطة السياسية بما فيها مجالات المواجهة مع السلطة بل وحتى شروطها. من الواضح الآن إن السلطة الخليفية تسعى الآن لفرض قواعد جديدة للنشاط السياسي. بعض هذه المساعي تتخذ أشكالاً صبيانية من قبيل سحب جنسيات مواطنين أو من قبيل الحكم على الناشطة الحقوقية زينب الخواجة بالسجن لمدة ثلاث سنوات والغرامة المالية لمجرد إنها مزقت صورة للملك. أو من قبيل منع الوفاق من إستئجار قاعة في نادي العروبة لعقد مؤتمرها العام في نفس الوقت الذي تهددها بسحب ترخيصها إن هي, أي الوفاق, لم تعقد مؤتمرها.

أقول ليس ممكناً تكرار ما فعلته الهيئة قبل ستين سنة. ولكن عدم القدرة على تنظيم “إضراب عام وشامل” لا يعني إن قيادات المعارضة لا تستطيع التحرك إلا بإتجاه العودة إلى مجالس الوجهاء والأعيان أو التعويل على أن ينجح حلفاء السلطة الخارجيون في عقلنتها. من جهة أخرى فإن الإعتراف بالآثار المدمرة لتغيير التركيبة السكانية والإجتماعية في البلاد لا تعني إن جميع مجالات المواجهة مع السلطة قد أُغلقت. فالقدرات السياسية والطاقة البشرية التي تتوفر لقوى الحركة الوطنية الآن تفوق بكثير ما كان لدى روّادها قبل ستين سنة. إلا إن قيادة الهيئة تجرأت وجماهيرها على المواجهة فإبتدعت أساليباً ملائمة لزمنها ومتناسبة مع طاقة جمهورها.

عبدالهادي خلف

السابع من ديسمبر 2014)ا )

نُشر من جديد في22 يونيو 2016