عن العنف والهوية

TH_Revolutionary%20Nonviolence_gandhi%20and%20che

عن العنف والهوية

من الصعب مناقشة علاقة العنف بالهوية دون البدء بما طرحه فرانز فانون. فهو يرى العنف حجر الزاوية التي لابد منها لنشأة النظام الاستعماري وانتشاره. إلا إن ذلك العنف الاستعماري لم يكن عنفاً عبثياً، على رغم ما بدا في ظاهره من عشوائية وتخبّط وإسراف. قد يتوارى العنف المادي في حقبة ما لتحل محله أشكال العنف الأخرى إلا إنها جميعاً تهدف إلى تمكين النظام الاستعماري من فرض إرادته وإقناع المغلوبين بعدم جدوى المقاومة؛ علاوة على فرض اقتناع المغلوبين بدونيتهم. فاستبطان الدونية هي نقطة البداية التي لابد منها كي يتمكن النظام الاستعماري من فبْركة جوهر الهوية الدونية (وتفريعاتها) التي ينشرها الغالب بين المغلوبين

يمكن تعميم توصيف فانون للعنف الاستعماري وأهدافه على العنف الذي تمارسه أنظمة الاستعباد الأخرى في البلدان التي تخلصت من الاستعمار. فجميع تلك الأنظمة تستخدم العنف كأداة ضرورية لتشكيل هوية الرعايا الدونية وإقناعهم باستبطانها. ويُعاد في ظل هذه الأنظمة إنتاج إيمان المغلوبين بكمال من غلبهم فيتشبهون به  “في ملابسهم وشاراتهم و الكثير من عوائدهم وأحوالهم”  بحسب ما لاحظ ابن خلدون.

استناداً إلى فانون تختلف علاقة المغلوب والغالب التي ينتجها النظامان الاستعماري والاستعبادي عن تلك العلاقة الجدلية التي تخَّيلها هيغل بين السيد والعبد. فتلك العلاقة تقوم على الاعتراف المتبادل وتتجه في آخر الأمر إلى تحقيق المساواة فعلياً فلا يبقى العبد عبداً ولا السيد سيداً. فما هو المخرج؟

ثمة مخرجان أراهما متكامليْن على رغم ظاهر اختلافهما – أولهما لفَانون والآخر للمهاتما غاندي. كلاهما يريان إن علاقة المستعبِد بالمستعبد قامت على ممارسات عنف صاغت مكونات هوية كل منهما ورسمت أشكال العلاقة بينهما. وكلاهما يريان أن الخروج من ربقة الاستعباد ومواريثه يتطلب مواجهات متواصلة ومكلفة مع سلطة الاستعباد لا تعيد صوغ العلاقة بين الغالب والمغلوب فحسب؛ بل وتزيلها وتلغي مواريثها.

ما يختلف فانون وغاندي فيه هو أساليب المواجهة, هل هي عنفية أو لا عنفية.  فالأول لا يرى سبيلاً للتخلص من موروث الاستعباد إلا عبر ممارسة المغلوبين لعنف مضاد فيما يشبه طقوس التطهير. ينطلق فانون من تشخيصه لاستبطان المغلوبين لدونيتهم باعتباره مرضاً لا يمكن علاجه إلا بممارسة عنف مضاد يكون طريقاً مزدوجاً للتحرر الفردي والجماعي. عندها سيتمكّن المغلوب من إزالة موروث سنوات الاستعباد وسيبدأ في إعادة بناء ذاته وهويته. ففي كل مواجهة مسلحة وفي كل نصر في معركة تتطهّر الذات التي دنسها الاستعباد. وفي الوقت نفسه تتشكّل شيئاً فشيئاً الهويات الجديدة؛ أي الهويات المتطهرة من دنس الاستعباد ومواريثه.

أما المهاتما غاندي فيصف سبيلاً مختلفاً لتطهير الذات المستعمَرة/ المستعبَدة ولإعادة تشكيل هوية المغلوبين. فعلى العكس من فانون يرى غاندي أن التغيير يبدأ من الذات – أي الذات التي تعودت على طاعة السلطة المستعبدة. ويتطلب هذا التغيير الجرأة على قطع الارتباط بسلطة الاستعباد تمهيداً لإعلان العصيان عليها والدخول في مواجهات غير عنفية معها. لهذا يشترط غاندي تلازماً تاماً بين إرادة راسخة وجرأة على المقاومة وبين ضبط النفس عن الانجرار إلى العنف بأشكاله. فبدون هذا التلازم تنحدر المقاومة إلى الفوضى، وبدونه أيضاً تصبح دعوات السلمية مجرد تبريرات منمقة لتسويق الاستسلام للأمر الواقع. أسارع لإيضاح أن غاندي الذي يفرق بين نموذجيْن من نماذج اللاعنف. بل إننا نرى غاندي  يتهكم من دعوات اللاعنف حين تكون مبرراً للاستسلام وتعبيراً عن العجز عن المقاومة. وهو يدعو بالمقابل إلى ما يسميه «لا عنف الشجعان» الذين يعلنون قولاً وفعلاً رفضهم طاعة سلطة الاستعباد من خلال المواجهات المتواصلة التي يخوضونها ضدها

_________________

مُسْتَلة من إجاباتي المنشورة في المقال الذي أعده الإستاذ جعقر الجمري (وتضمن إجابات باحثين آخرين) والمنشور في جريدة الوسط بتاريخ  17/5/2014

http://www.alwasatnews.com/4270/news/read/886221/1.html