خمس سنوات تفصل بين زيارة سمو ولي العهد إلى قرية المقشع في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2002 وبين 17 ديسمبر/ كانون الأول 2007 حين فارق الحياة المغفور له علي جاسم في جدحفص إثر مشاركته في الاحتجاجات التي واجهتها قوات الشغب بمختلف الوسائل بما فيها القنابل الغازية والمسيلة للدموع. إلا أن المسافة المكانية والزمانية تبدو شاسعة بين قرية المقشع في العام 2002 وجدحفص في العام .2007 ومع ذلك فما حدث في المكانيْن وفي اليوميْن يلخص جزءاً مهماً من تاريخنا الحديث.
في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول ,2002 زار سمو ولي العهد قرية المقشع واطلع، بحسب تقارير إخبارية «على الوضع المأساوي الذي يعاني منه أهالي تلك المنطقة، مشدداً على ضرورة رفع المعاناة على كاهل سكان تلك المنطقة والمناطق الأخرى». كما أكد «أننا سنعمل بكل عزمٍ وإرادة وبتكاتف الجميع على الارتقاء بهذه المناطق من خلال كثير من المشروعات التي سيتم تنفيذها (…) وأننا عاقدون العظم على توفير الحياة الكريمة لجميع المواطنين من دون تمييز[1]. وتناقلت أفواه الناس ما لم تنقله الصحف من أن الزائر الملكي كان متأثراً من سوء الأوضاع التي شاهدها، وأنه قال «لو كنت أعيش كما يعيشون لفعلت ما يفعلون. وَنسب الناس لسمو ولي العهد قوله إن هؤلاء، أي أهل القرية، يستحقون الشكر لأنهم لا يثورون. وفي المقابل أعرب أهالي القرية عن فرحتهم بما أبداه سموه من تفهم لمطالبهم واستماعه لمختلف اقتراحاتهم من أجل تطوير البنى الأساسية في القرية[2]».ا
في يوم 17 ديسمبر/ كانون أول 2007 كانت مختلف أجهزة الدولة بما فيها الإعلام الرسمي وقوات الشغب مشغولة في مواجهات مع مجموعات من الشباب في «مناطق الاشتباكات». وقام الشباب بإشعال النار في إطارات السيارات وحاويات القمامة واستعملت قوات الشغب القنابل الغازيّة والمسيلة للدموع. وبجانب وفاة الشاب علي جاسم وإصابة عدد من المواطنين بمن فيهم أطفال، فلقد أدت المواجهات إلى إغلاق شوارع وطرق عدة، ما تسبب في اختناقات مرورية وتعطيل لمصالح الناس. ولقد أدت الاشتباكات المتقطعة التي استمرت أياماً عدة إلى توتير الأجواء في مختلف أنحاء البلاد
المسافة شاسعة بين المكانيْن وبين الزمانيْن. عكست المواجهة الودية في المقشع آمال الناس في أن تتغير الأحوال وأن تتحقق الوعود. بينما عكست وفي جدحفص إحباطاً متراكماً، بل ويأساً من حدوث ما أَمَلوا فيه من تغيير. وقبل أن يُكَّلف أحدٌ بتدبيج بيان آخر يندد بهذا الكاتب ويستعدي عليه جامعته أسارع للتأكيد على اقتناعي بأن مشاعر الإحباط واليأس التي نرى انعكاساتها في شوارع «مناطق الاشتباكات» ليست موجهة فقط إلى السلطة بما فيها أجهزة الأمن. بل هي موجهة أيضاً إلى قادة المجتمع المدني ووجهائه بمن فيهم النخب السياسية التي تولت الحديث مع السلطة باسم الناس منذ التصويت على ميثاق العمل الوطني.
لقد خيّبَ كثيرٌ من هؤلاء ظّنَّ الناس بهم. بل إن بعضهم صار يتصرف وكأنهم خلاصة تاريخنا الوطني وهدفه. فهم يتخيلون أن من أجلهم سقط عشرات الشهداء وسُجن آلاف المعتقلين وشُرِّدت مئات العائلات. وكأن التضحيات التي بذلها الناس كانت كلها من أجل أن يتفرهد في النعيم من كانوا في الواجهة يوماً ما قبل أن ينزلقوا في منزلق الطمع فصار الواحدُ منهم وزيراً أو نائباً أو مستشاراً معلناً أو مخفياً. وهم يتصرفون وكأن تضحيات الناس منذ الخمسينات وحتى قبلها هي من أجل زيادة عدد الصحف في البحرين أو زيادة حصة هذه الطائفة أو تقليل حصة تلك في وظائف هذه الوزارة أو تلك المؤسسة. وهم يتصرفون وكأن تضحيات الناس كانت من أجل أن تتأسس جمعيات سياسية يقفون هم على رأسها ويستخدمونها معبراً للوصول بالانتخاب أو التعيين إلى البرلمان أو إلى مجالس أخرى. ولا يتوقف بعض هؤلاء فترة من الزمن تكفي لطرح السؤال بشأن صواب الطريق الذي دفعوا فيه الناس منذ انتهاء التصويت على ميثاق العمل الوطني.
فلو كان هدف نضالات شعبنا منذ الخمسينات وحتى الآن هي أن يصل هؤلاء إلى مواقع الوجاهة والحظوة لدى السلطة لما احتاج الأمر إلى نفي الباكر وأصحابه، ولا إلى سجن الموسى وفخرو، ولا احتاج الأمر أن يُسجن من سجن، أو يموت تحت التعذيب أو يُنفى من نُفي طوال أكثر من خمسة عقود مضت. وبطبيعة الحال، لما احتاجت السلطة لخدمات هندرسون ولا لمرسوم أمن الدولة. ولا احتاج الأمر إلى استشهاد الهانييْن وعشرات غيرهما في التسعينات وقبلها.
نحتاج إلى العودة إلى تاريخ الحركة الوطنية بدءاً من هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات لنستخلص أهمية الالتفات إلى عقبتيْن صعبتيْن لهما دوراهما البارزان في تشكيل تاريخنا كما أن لهما دورهما فيما نعاني منه الآن. العقبة الأولى تتمثل في تداعيات ما نسميه بحاجز الخوف، وثانيهما تتمثل في تداعيات منزلق الطمع. مثل غيرنا من المجتمعات تتولى الناس مواجهة حاجز الخوف فيسقطونه بإصرارهم على التحدي وباستعدادهم للتضحية. ومثل غيرنا من المجتمعات تتولى النخب السياسية مواجهة منزلق الطمع فلا يصمد بعضها، بل نراها تسقط فيه راضية مرضية تاركة وراءها الناس بمن فيهم نشطاؤها في العراء.
صحيح أن ما حدث من تساقطات في الأعوام 2001-2007 ليس جديداً في تاريخنا. لكن ما شهدناه في الأعوام الستة الماضية يفوق ما سبقه بكثير. وللأسف، لم تختص بالسقوط في منزلق الطمع طائفة من دون أخرى أو مدينة أو قرية. ولم ينفرد بسرعة الانزلاق في مستنقع الطمع تيارٌ سياسي من دون آخر. ففي منزلق الطمع سقط الإسلامي والشيوعي والقومي، ناهيك عن آخرين ممن لا لون لهم ولا رائحة.
نعم، هي بضعة أعوام تفصل بين زيارة سمو ولي العهد وبين الفجيعة بموت علي جاسم، إلا أنها المسافة السياسية بينهما شاسعة. فبجانب أنها تلخص جزءاً مهماً من تاريخنا الحديث، فهي تشرح كيف تحولت بعض القيادات العلمانية والإيمانية التي كانت الناس تعوِّل عليها إلى مجرد ديكور في خدمة النظام السياسي. وكيف أصبحت تلك القيادات سببا إضافياً من جملة أسباب تدفع الناس دفعاً إلى اليأس
——————————–.
[1] انظر: «إثر تقرير من سمو ولي العهد، الملك يصدر أمراً فورياً بإنشاء قرية إسكان نموذجية لأهالي المقشع»، صحيفة «الأيام» 4 أكتوبر/ تشرين الأول .2002
[2] انظر: «سمو ولي العهد يزور قرية المقشع ويلتقي بالأهالي»، صحيفة «أخبار الخليج» 3 أكتوبر/ تشرين الأول .2002
———————-
مقال منشور في الوقت البحرينية