شهادة الرفيق عبدالله مطيويع عن استشهاد محمد غلوم بوجيري ١٩٧٦

 

 

بقلم: عبد الله راشد مطيويع

في 2 ديسمبر 1976، بينما كنت ما بين الغيبوبه والصحوه، فتحت عيني على وجه ضبابي الملامح يتحدث الانجليزيه وبضع كلمات عربية مكسرة، ذو بشرة بيضاء، حمراء وأعتقد أنه انجليزي، بعد أن أزاح عن وجهه “الجودري” التي هي قطعة من الخيش الخشن، عن وجهي وصار يناديني (أبدلا..أبدلا، متيوا، عبد الله متيوا) هل تسمعني، لم أعرف أن كنت في حلم أو كابوس أو صحو، أو كل هذا، قال لي كلاماً وهو جالس القرفصاء، ويهز كتفي، قال كلاماً لا أذكر منه سوى (The Case Is over)، وسمعته يقول لهم أطلبوا له الحليب، وفيما يشبه نفس الوضع جاء شخص هندي الملامح وسألني بصوت يختلف عن صوت الجلادين واحداً واحد والذي حفظته سمعاً حيث كانت عيناي معصبتان طوال الأيام منذ بدء أخضاعي للتعذيب صباح 26/11/1976  بعد هزني عدة هزات، مم تشكو؟؟ قل لي مم تشكو أنا دكتور وسوف أعالجك، لا تخف. 

أمسك بيدي وأزاح كم الثوب من يدي اليمنى الذي كان ملطخاً بالدم، وفرك زندي بمحلول المطهر، فنفذت رائحة المحلول إلى أنفي ورأسي فسحبت يدي بعفويه كما أن لو أفعى قد لدغتني لماذا؟؟ لم أعرف لماذا؟ ودسيتها تحت الغطاء الخيش الخشن، حيث ربت على كتفي فكرر علي لا تخف أنا دكتور سمويل سوف أعالجك أنها (إبرة) سوف تكون مفيدة لك. كان لرائحة المحلول المطهر فعل العودة والاستفاقه أو شبه الاستفاقه من دوار الرأس. وإدراك ما حولك، حيث أنه منذ 26/11/1976 حتى 2 ديسمبر دون أكل دون ماء دون نوم. يكون المرء في حالة ما بين بين، الوعي، والغياب، والصحو، وشبه النوم بل لا تدري أهو نهار أم ليل، حلم أو علم أم لا أعرف. هكذا كان الحال.

أجلسني بيديه وبصعوبة، وساعده الشرطي الحارس وأسندني إلى الجدار، وراح يسقيني من كأس به سائل. حين مضغت شيئاً منه عرفت أنه حليب. لحظتها قرأت أو أحسست أن هذا الإنسان خلاف أولئك الجلادين القتله اللذين يبدأون سؤالهم بشتم أمك وأخواتك ويصفوهم بأقبح الألفاظ.

بعد أن أطمئنيت إلى هذا الرجل الذي عرفت فيما بعد أنه الدكتور سموائيل، قبلت له أن يحقنني كل يوم حقنه لمدة تسعة أيام.

وبعد أن جاءني للمرة الثانيه السيد آبان هندرسون الزنزانه، وبعد أن رابطت أختي نيله في القلعه عند القسم الخاص، وصممت أن لا تغادر إلا حين تتأكد أن أخوها عبد الله حي ولم يمت كما مات محمد بوجيري. كما أشيع في طول البحرين وعرضها. حتى أن احدى نساء الفريج الذين أحبو عبد الله قد جهزوا الكفن وجاءت الأخت ع.م. إلى البيت لكي تتأكد فلم ترى أية إشارة أو مظهر من مظاهر الاستعداد للجنازه. حيث جاءني الشيخ ر.س. الذي كان صديقاً لأبن أختي نيله خالد وكان يتردد على بيتهم كصديق لأبنها ولم تكن تعرف أنه يعمل في المخابرات. وقد تفاجأ وأصابته الدهشة والخجل، حيث أن الذي قام بتعذيبه هو أخو المرأة التي كان يأكل من طبخ يدها.    

تكهرب الجو وارتبك في قسم المخابرات، خلال هذا الارتباك الذي خيم عليهم بسبب استشهاد محمد بوجيري، وانتشار الاحاديث عن وحشية التعذيب وموت البعض وجو البحرين مشحون بالتوتر والشائعات ومنشيتات الصحف وفبركاتها عن الجهات السياسيه التي خططت للتفجيرات والاغتيالات، وسفينة أسلحه جاءت من الخارج وتم اكتشافها.

وعدد المواقف 6 ديسمبر بالمنشيت العريض ع.م. مسئول عمليات التخريب والاغتيال. هذا الخبر المنشيت أخبرني عنه الأخ عباس مرهون حين أتوا به إلى الزنزانة المجاوره.

في كل هذا المعمعان، كان يأتي يومياً، إلى باب زنزانتي أحد عناصر المخابرات وكان إنساناً بائساً وجاهلاً وفقيراً وقد جندوه ليعمل مخبراً. كان يأتي ويقف مدة طويلة وأنا جالس ولا أستطيع الوقوف، فيجلس لكي يتكلم بما يشبه الهمس، من أهم ما قاله وكان يومها مرتبكاً جداً. فبعد ما أنصرف هندرسون عني. قال لي هذا المسكين يا خوي مطيويع ترى أنه ما لي علاقة بوفاة محمد بوجيري، أنه في الفرقة ب، وبوجيري مات عند الفرقه أ.

 ليحفظ أهل بوجيري هذه العبارة، وإذا ما أرادوا البحث عن عناصر الغرفه أ إذا ما عزموا على إقامة دعوتي ضد من تورط في قتل أبنهم فهم لا يزالون أحياء. واحد فقط منهم مات موتة تليق به مات مخموراً وحيداً مريضاً بهواجس وأشباح من عذبهم لأنهم صاروا يلاحقونه في صحوه، ونومه وفي سكره.

قبل 2 ديسمبر 1976 ربما كان اليوم الرابع أو الخامس أو السادس كانوا قد جاءوا بمحمد بوجيري متورم الوجه معصوب الرأس بشاش، هو في الأصل أبيض لكنه كان أحمراً مما تشبع به الدم الذي كان ينزف من رأسه جهة اليمين، وبات لا يقوى على الكلام ولا الحركه وكانوا قد حملوه ليروني شكله حتى أنني لم أتعرف عليه إلا من طول قامته ونحالة جسده. وأحدهم يزجره بعنف وبقوله له قل حك هذا الكلب (الذي هو أنا) أن يعترف وإلا سيكون مصيره مصيرك.

الشهيد بالكاد كان يفتح عينه واعتقد أنه لم يكن يدرك ما يدور حوله، كان هدفهم أن يرعبوني ويفزعوني في البداية لم أتمكن من التعرف عليه فكان وجهه متورم وشفتاه تميل إلى الزرقة أو السواد ورأسه معصوبة بلفافه بيضاء ولكنها تحولت إلى حمراء من شدة ما نزف رأسه من الدم، كانوا يكررون ضربه أمامي لكي يصرخ وكانت صرخاته أقسى علي من سياطهم على جسدي سحبوه إلى الخارج كالذبيحة لأنه لم يكن يستطيع المشي أو الوقوف على قدميه، وسمعته يصرخ لأنهم واصلوا ضربه (بالهوز) الانبوب البلاستيكي، ومن مر عليه الانبوب البلاستيكي يستطيع أن يميز صوته من دون أصوات أدوات التعذيب.

في صباح أو ضحى يوم 2 ديسمبر 1976 كنت في الزنزانه الثانيه قسم المخابرات والأولى كان بها الأخ سيد إبراهيم سيد عدنان من الرفاق في جبهة التحرير، وقد جلبوا له محمد بوجيري قبل أن تتدهور حالته من نزيف الرأس. وكان يطلب بندول، وكان سيد إبراهيم يصرخ على (السنطري) الحارس بأعلى صوته، الرجال يموت الرجال يموت، تعالوا، الرجال يموت، الحارس كان بلوشياً، ويبدو أنه رأى المشهد فأسرع إلى الخارج وجاء بصحبة أحد الجلادين، فتحوا الباب وأخرجوا محمد ولا أعرف أين أخذوه، فيما بعد بعد أن تسربت الأخبار من هنا وهناك وبعض المتعاطفين معنا من الحراس الذين استطعنا اكتساب احترامهم أو تعاطفهم الإنساني.

أنهم أخذوه إلى زنزانة القلعة، ثم حين يأسوا من حالته نقلوه إلى مستشفى السلمانيه لكنه في هذا الوقت قد مات، هذا ما قاله ذاك الدكتور البحريني الإنسان، ولديه بقية الحكاية، ولدى د. سمويل بعض الحكاية، ولدى سيد إبراهيم حكاية اللحظات قبل أن ينقلوا محمد بوجيري جسداً وقليلاً من الروح إلى أن فاضت روحه إلى بارئها.

أخذ الجلادون القتله جسده إلى القلعه وقام بالصلاة عليه إمام مسجد القلعه وهو أحد أبناء فريج ــــ فريج (العاجل) القحطاني.

أخذوا جسده إلى مقبرة المنامه، وذهب أحد المخبرين إلى بيتهم في المحرق قرب كازينو المحرق، وكان الناس متجمهرون، وطرق الباب وطلب حضور والد محمد بوجيري، فاستبشر الوالد أو أنه توهم، فأخذ معه بعض الثياب، على عجل، أنطلقت سيارتهم ال AUDI مسرعة إلى المنامه، حيث وصلوا عند عمارة لكويتي وقادوا الأب إلى دكه الموتى في مقبرة المنامه ورفعوا طرف الكفن صوب الرأس. سقط الأب مغشياً عليه.

في رواية أخرى أنهم أخذوه إلى القبر المفتوح، وبه جسد محمد غلوم بوجيري وكشفوا عن وجهه وقالوا له هذا أبنك محمد مات بسبب سكته قلبيه.

أية قلوب هذه، أينتمي هؤلاء إلى الأدميه أو شيئاً من الإنسانيه، أهؤلاء بشر ((أنني في شك من بغداد إلى جده)) الحقوق والقصاص لا يسقط بالتعادم وسيعلم الذين ظلموا أياً منقلب ينقلبون”.

أكاد لا أصدق أن 37 عاماً مضت على تلك الأيام السوداء، ترى ماذا سنقول عن الأيام الأكثر سواداً التي جاءت فيما بعد.

لم يتوقف القتل. قد أوقفوا التعذيب عني وأرسلوني إلى جزيرة جدا سجن بيت الدولة.

واستمروا في أماكن أخرى. ففي 12 ديسمبر 1976 قتلوا الشاعر المرهف الشهيد سعيد عبد الله العويناتي وبنفس السيناريو دفنوه. بعد أن طلبوا من أحد أقاربه وكان يعمل مخبراً أن ينقله ويسلم جثمانه ويدفن بإشراف جهاز الأمن بموافقة هذا المخبر الذي أعتقد أنه مات أو أنه حي لكنه ميت.

لا أكاد أصدق أن 37 سنه سبعه وثلاثون سنه مضت على تلك الأيام السوداء، ترى ماذا سنقول عن الأيام التي جاءت فيما بعد وكانت أشد سواداً ــــ تمت محاكمة الثلاثة محمد طاهر، وإبراهيم مرهون، وعلي فلاح وحكم عليهم بالاعدام. وبرئت ساحة أحمد مكي، المتهم الرابع وأمير منصور المتهم الخامس، ولم يطلق سراحهما فقد ظل أحمد مكي موقوفاً أكثر من سبع سنوات، وظل صاحب هذه السطور ثمان ثمان سنين وشهر بأمتياز دون محاكمة، دون تهمه، دون حتى أخذي إلى القاضي للإجراء التعسفي الروتيني لتحديد مدة توقيفه على ذمة التحقيق، كما كان يجري لبقية الأخوة اللذين اعتقلوا بعد حل المجلس الوطني في أغسطس 1975.

ترى متى ستتم محاسبة ومعاقبة القتله على أفعالهم؟! ربما في حياتنا أو بعد أن يأخذ الله أمانته فالاجيال القادمه لن تغفر لهم.

بقي شيء واحد مهم، تفاصيل كل ما حصل أكيد موجود في تقارير وآرشيف المخابرات، وإذا ما أتلفت من أرشيف البحرين فهي حتماً موجوده في بريطانيا أرشيف الخارجيه، ومراسلات السفاره البريطانيه وربما الاميركيه فيما بعد وهذه من حسنات الاستعمار البريطاني، والانجليز مولعين بالتقارير الدقيقه والمفصله أكانت استخباراتيه أو تاريخيه كما فعل د.ج. لوريمر في موسوعته التي يشكر عليها ويستحق الترحم عليه، كما يجوز الترحم على الميجر ديلي 1920/1926 وعلى السير جارلز بلكريف 1926/1957.

لأن أيامهم لم تكن جزر تستملك لأفراد ولا بحاراً تدفن وتباع ولا سرقات بالملايين ولا رشاوى بالمليارات ولا فساد يضرب بأضنابه في قعر مؤسسات الدولة ووزاراتها بشهادة ديوان الرقابة المالية، بل أن الميجور ديلي كان يعاقب أي متعدٍ على أفراد الشعب بالتسفير ومصادرة أملاكه وعرضها في سوق الحراج. وتلك شهادات ليست من عندي لكنها في وثائق الانجليز، وفي روايات أبائنا وأجدادنا وكبار السن ممن عايشوا تلك الحقبات وبعضهم يترحم على الانجليز مكرراً ((الله يرحم أيام الانكريز “الانجليز”)). 

وأخيراً وليس أخراً سؤال إلى من وضع نفسه أو وضع في المؤسسات والجمعيات الحقوقية، متى ستفتحون ملفات الموت المجاني في أقبيته، منذ شهداء 1965 ، عبدالله حسين نجم، عبدالله سعيد الغانم، فيصل القصاب، وعبدالنبي سرحان، وعبدالله سرحان، وجاسم عبدالله وبعدهم شهداء السبعينات الشهيد محمد بونفور والشهيد محمد غلوم بوجيري والشهيد سعيد عبدالله العويناتي، ومئات الشهداء منذ الثمانينات والتسعينات ولديكم أسمائهم وموثقة كيف ومتى تم قتلهم، أو الذين قتلوا في الشوارع بالرصاص الحي كالشهداء الأربعة عند سور القلعة في الأول من  ذو القعدة عام 1373 ه  (يوليو 1954) حينما انتشرت اشاعة حول  اعتقال زعماء  هيئة الإتحاد الوطني واحتجازهم في  القعلة فقد توجه عدد من المتظاهرين إلى القعلة احتجاجاً على اعتقالهم فأطلق  الجنود الرصاص من أعلى سور القعلة واستشهد ( إبراهيم عبدالرسول بن سيف ـ المنامة، محمد الحاج كاظم الحاج علي ـ قرية المالكية، علي أحمد السعيد ـ قربة مقابة، علي الحاج حسن الحاج عبدالله ـ قرية سترة)  ناهيك عن الذين خرجوا من السجون بعاهاتهم.

 

فماذا أنتم فاعلون؟؟.  

— 
جمعية العمل الوطني الديمقراطي 
“وعد”
هاتف:0097317722000
فاكس: 0097317722424
ndasadmin@gmail.com
ص.ب:2815
المنامة – مملكة البحرين