ذاكـرة الأمكنة (مقال قديم) ا

لوهلة حسبتُ ما كتبه الأخ حسين السلم في الوقت[1] حول تغيير أسماء بعض القرى واحداً من تلك المقالات التي تجعل من الحبة قبة. فمن تهمه المحافظة على اسم قرية في وقت لا ندري فيه إلى أين تُبحر بنا سفينة البلاد؟ فضمن الصورة العامة المرتبكة للوضع السياسي في البلاد لا وقت للوقوف أمام مسألة إدارية من قبيل تغيير أسماء قرى أو تبديل لافتات تدل عليها. ولا أحد يتوقع شيئاً من احتجاج أهالي تلك القرى أو تهديدهم بالاعتصام السلمي. ولا يستدعي الأمر تشكيل لجنة تحقيق برلمانية حول الموضوع في وقت لم تتوفر للبرلمان فرصة الاتفاق على تشكيل لجان للتحقيق في مسائل أخرى أكثر إلحاحاً وأولوية.

إلا أنني سرعان ما تبيّنتُ أن المقالَ يثير أموراً أكبر مما يشي عنوانه. فها نحنُ أمام عضويْن منتخبيْن في مجلسٍ بلدي يشتكيان من قرارات ينسبانها إلى ‘’مجهولٍ’’ في الجهاز المركزي للمعلومات. ومعلومٌ، بعد نشر ‘’التقرير الشهير’’، إن هذا الجهاز ليس كبقية أجهزة الدولة. بل هو أحد أكثر أجهزتها سطوة و أكثرها غموضاً. وإليه تُنسب عدد من ‘’الخطط’’ الطموحة التي جَنَّدت الدولة طاقاتها لمنع الحديث عنها. بل و بذلت أطراف كثيرة بما فيها أعضاءٌ في البرلمان جهوداً لإفشال محاولات خجولة ورمزية لمساءلة الوزير المسؤول عن الجهاز عن تداعيات ما ينسبه التقرير إليه. h

عرفتُ، قبل أن أباشر كتابة هذا التعليق، إن الجهاز المركزي للمعلومات نفى علاقته بالموضوع. إلا أن أحداً لم ينفِ بشكلٍ مقنع ما تشير إليه دلائل كثيرة عن وجود ‘’جهة ما’’ ترى أن من مهماتها إعادة رسم خريطة البلاد ديموغرافياً واجتماعياً وجغرافياً. وفي إطار السلطات الممنوحة لهذه الجهة غير المعلنة لا أستغرب اتخاذها قراراً قراقوشياً بإزالة اسم قرية أو تبديل اسم حي. لقد تعودنا على ألا يتم الإعلان عن أسباب هذه الإزالة أو ذلك الاستبدال. وهذا كان حال الحي الذي يقع فيه بيتنا في المنامة. فبدون سابق إنذار صرنا من سَكَنة ‘’فريق كانو’’ بعد أن كنا، مثل أجيالٍ قبلنا، نعرفه بإسم ‘’فريق الحطب’’. ما العيب في الاسم القديم؟ ومن قرّر تغييره؟ ولماذا؟. لا أحد يعرف. ولم يجرؤ أحدٌ على الاستفسار. بل وصار من يقول إنه من فريق الحطب كمن يعارض ‘’الحداثة’’ أو صار مروجاً، والعياذ بالله، للطائفية. شيئاً فشيئاً رأينا جزءاً من تاريخ البحرين يضيع بعد أن كان يختزنه المكان الذي كان اسمه فريق الحطب.

من الواضح أن الشكوى البلدية التي نقلها المقال لم يسببها التنافس على الصلاحيات بين جهازين من أجهزة الدولة. ولا أرجح أن مصدر التنازع هو رغبة أحد الأجهزة في تخطي ‘’عقبات’’ الروتين والبيروقراطية فاستبدل أسماء قرى أو أزالها دون استشارة المجلس البلدي المعني. ما تستثيره الشكوى هو أكبر من لافتة هنا أوهناك ومن حوْقلة عضويْن في مجلس بلدي. ففي حال صَحَّ ما قاله العضوان عن إزالة اسم قرية الماحوز أو غيرها فلن تكون هذه الخطوة إلا واحدة من مؤشرات كثيرة تشير إلى توجه رسمي لإعادة رسم خريطة البلاد ديموغرافياً واجتماعياً وجغرافياً. وهو توجه يصل إلى درجة الهَوَس الذي تفضحه كثرةٌ من القرارات والإجراءات الرسمية المتضاربة أحياناً. ومعلومٌ أن هذا الهوس قد بلغ مبلغه حين فُرضت السرية المشددة منذ بداية التسعينات على قرارات التجنيس بعد أن كانت جزءاً اعتياديا مما تنشره الجريدة الرسمية ولا تعيره الناس اهتماماً كبيراً. من الواضح أن المستشارين المُسْتجلبين لهذا الغرض يجهلون تفاصيل واقعنا الاجتماعي السياسي وتاريخه، أو هم يستخفون بها.

لهذا أضع يدي على قلبي جزعاً من أن يؤدي هذا الجهل وذلك الاستخفاف إلى المضي بعيداً في تطبيق سياسة ثبتت خطورتها في أكثر من بلد في العالم. وهي سياسة لا يشكل فرض أسماء جديدة لقرانا وأحيائنا إلا رأس جبل الجليد فيها. فالمنخرطون في هذه السياسة يعرفون أن نجاحها يتطلب الاستمرار إلى أقصى الحدود في جهود إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية. ولا شك أنهم يعرفون أيضاً أن هذه الذاكرة ليست محصورة فيما تختزنه ذاكرة الأفراد. بل إن القسم الأهم منها هو ما تختزنه ذاكرة الأمكنة.

حين ناشدَنا أبو العلاء المعري أن نخفف الوَطْءَ وحين وقف قبله امرؤ القيس يبكي بسقْط اللِّوى كانا يقولان ما سيقوله عالم الاجتماع موريس هالبواكس[2]، معاصرُ دوركهايم. ففي حين تتعرض ذاكرة الأفراد إلى التآكل والتلف تبقى ذاكرة الأمكنة. فالمكان هو حافظة الذاكرة الجمعية وأحد معالمها ورموزها في الآن نفسه. قد يكون المكان بقعة أرض أو حقلاً أو عيْن ماء. وقد يكون مسجداً أو مأتماً أو مقبرة أو طَلَلاً. فللأمكنة كلها، صغيرها وكبيرها، مواقعها الخاصة بها في لوحة الفسيسفاء التي نتعارف على تسميتها بذاكرة الوطن. وحين يختفى مكانٌ أو يُزال يبدأ اندثار كل ما يرتبط به في تلك الفسيفساء الوطنية. عندها تزداد البقعُ الفارغة في تلك الفسيفساء وتتسع الفوارق بين مكوناتها.ا

قرأتُ مقالاً كتبته الأخت باسمة القصاب[3] فرأيتُ، بعد أن اتكأت على هالبواكس، كيف يمكن التعرف على الذاكرة الجمعية في قريةٍ من خلال متابعة سِيَر حياة أمكنتها، دواليبها ونخلها. وهي سِيَر حياة تتوثق بها تعرجات علاقات القوة وما تُسهم في توليده من بُنَى داخل القرية وخارجها. وهذه السِيَر توفر للقرية، إن شاءت، لقاحاً ضد الابتلاء بثنائية الغالب الجمعي والمغلوب الجمعي. فذاكرة أمكنة جد الحاج، مثل كل قرانا، تُفصِح، حين تُسأل، عن تداخل بعضُ المغلوب في الغالب. وهي، بذلك، تعطي ‘’المظلومية’’ أوجهاً عدة مستترة. ا

يعكــــس تغيير أسماء القرى والأحياء انبهار الاستشاريين و بعض متخذي القرار بقدرة مشروعات الهندسة الاجتماعية على إعادة تشكيل المجتمع حسبما يريدون. وهو انبهارٌ يشابه ما ساد في الاتحاد السوفياتي وتركيا الأتاتوركية ولم تسلم منه أيضاً دول أنظمة الرفاه الاجتماعي في أوروبا الشمالية. لحسن الحظ، تتوافر الآن عشرات الأمتار من رفوف المكتبات المليئة بالدراسات عمّا سبَّبته مشروعات الهندسة الاجتماعية من مآسٍ حقيقية في تلك البلدان. لكن، لسوء حظنا، لا يبدو أن متخذي القرار لدينا قادرون على الاستفـــادة من قراءة تاريخ الآخـــرين.ا

—————
الهوامش: [1] ‘’طالبوا -المركزي للمعلومات- بالشفافية – تغيير أسماء القرى يثير ضجة في -بلدي العاصمة-’’ الوقت، 1 أغسطس/آب 2007 [2] انظر الترجمة التي قام بها لُويس كوسـِر Maurice Halbwachs on Collective Memory. The University of Chicago Press، 1992 [3] ‘’استملاكات القوة..نخل سيحة جد الحاج نموذجاً’’، الوقت ، 14 يونيو/حزيران 2007

——————————————–

مقال منشور في الوقت