في مثل هذا اليوم قبل سنة نشرتُ في الوقتِ مقالاً[1] تعرضتُ فيه إلى عدم جدوى الحلول الأمنية في إقناع الناس، خصوصا الشباب، بعدم اللجوء إلى الشارع للاحتجاج على ما يعتبرونه ظلماً أو تهميشاً. ولن ترتدع الناس عن ممارسة ما يعتبرونه حقاً من حقوقهم حتى ولو اجتمعت كل أجهزة الإعلام لتكيل الشتائم عليهم بدءا بالإرهاب وانتهاء بادعاء أن احتجاجاتهم غريبة عن ‘’طبيعة وتقاليد’’ البحرين. وأخيراً، وفي تطورٍ يعكس تنامي الوعي البيئي لدى النخبة السياسية في البحرين، رأينا من يلوم المشاركين في الأعمال الاحتجاجية لأن أعمالهم سببت أخطاراً صحية وبيئية بعد أن اُضطرت الشركة المشرفة على جمع القمامة في إحدى القرى إلى سحب جميع الحاويات منها[2].
تصدر من حين إلى آخر دعوات إلى تفعيل دور المجتمع المدني في تجنيد الشباب بهدف انتزاعهم من براثن القوى التي لا تريد بالوطن خيراً كما يقال. ولقد أصبحت هذه الدعوات قاسماً مشتركا في الجهود الإعلامية المبذولة لإرشاد الشباب ‘’المتهور’’ أو الذي في طريقه إلى التهور. ولم يقتصر الأمر هذه المرة على الأقلام المعهودة. فلقد شهدنا انضمام آخرين للفزعة الإعلامية التي استعادت بعض أسوأ ما بُثّ ونُشر في التسعينات.
ورأينا بعض أصحابنا يستعير من مصر الملكية دعوة ‘’كل مواطن غفير’’ بل ويكاد يطالب بإلزام الأهالي بمساعدة رجال الأمن لحماية قراهم من ‘’الغرباء’’.
ضمن هذه الفزعة الإعلامية، ازداد التنافس بين شريحة من الإعلاميين في كيل المديح لمواطنين في إحدى القرى، قيل، ولم يثبت، إنهم قاموا بالتصدي لمخربين ومشاغبين غرباء أتوا إلى تلك القرية من ‘’خارجها’’. ولعل كثيرين غيري شاهدوا على الفضائية البحرينية تلك الجلسة التلفزيونية التي تبارى فيها رئيس جمعية يسارية مع ممثلي وزارة الداخلية في إدانة ‘’الغرباء’’ الذين يحولون القرى الآمنة، رغم أهلها، إلى ساحات شغب ومواجهة. ولم يقل لنا أحدٌ متي صار الفتى البلادي غريباً عن السنابس؟ أو من منا اكتفى، منذ الخمسينات، بالتظاهر أمام بيوتنا وفي أحيائنا فقط؟.
جيلٌ بعد جيل وصف الطرف الرسمي وإعلاميوه من يعارضهم بأشنع الأوصاف فلم يرتدع هؤلاء. وجيلٌ بعد جيل تعرض المعارضون، سواءً أكانوا يحتجون في الشوارع أم كانوا يحتجون بأقلامهم وحتى في قلوبهم، إلى الملاحقة والمعاقبة التي تصل إلى حد قطع الأرزاق والأرحام. لم يتوقف الناس عن الاحتجاج حتى مع ارتفاع الثمن الذي يدفعونه وتدفعه عائلاهم. لم توقفهم الاستهانة بهم ولا أهانتهم. ولم يوقفهم الخوف من قطع الرزق أو الاعتقال أو النفي.
ومع ذلك لا تتعلم السلطة إن مواجهة احتجاجات تتطلب أولاً وعاشراً الحاجة إلى التوافق على إزالة معوقات بناء الدولة الدستورية في بلادنا. وإننا أيضاً بحاجة إلى تعاطي وبشجاعة مع العوامل الكامنة في بنية المجتمع التي تولّد عند بعض الناس شعورا بالظلم أو الهامشية وتدفعهم، كلما طفح الكيلُ، إلى الاحتجاج. بعض هذه الاحتجاجات تؤدى إلى تدمير الذات فما بالك بالممتلكات أو البيئة كما اشتكى أخونا حسن مدن.
لهذا، نحتاج إلى التوافق على أن الحلول الترقيعية، كما الحلول الأمنية، لن تفيد، بل قد يتولد عنها تعقيدات إضافية. فلابد من معالجة الأسباب الحقيقية التي تدعو إلى تفجر هذه المواجهات الدورية. فطالما استمر نهج القفزُ على البدايات، كما كتب أخونا غسان الشهابي[3]، واستمر التركيز على انعكاساتها ستبقى البلاد تعاني ما تعانيه. إلا أن بلادنا، كما كتب الشهابي، ‘’لم تعد تتحمل المزيد، فالخيبات في بعضنا بعضاً تتجاوز نفسها في كل مرة..’’.
من بين الشخصيات المهمة التي نعيش معها في رواية ‘’عمارة يعقوبيان’’ هناك طه، ابن محمد الشاذلي بواب العمارة، الذي يحلم منذ طفولته بأن يصبح ضابط شرطة[4]. من أجل هذا الحلم ينكب طه على الدراسة فيحصل على مجموع عالٍ يؤهله لدخول كلية الشرطة. وبسبب مواظبته على التمرينات الرياضية ينجح أيضاً في اختبارات اللياقة البدنية. وبسبب إيمانه ومحافظته على الفرائض نراه واثقاً من أن الله سيحقق أحلامه. يدخل طه امتحان المقابلة فيتم ترسيبه. فليس في الكلية مكان لأمثاله.
نعرفُ أن من بين سكان العمارة من أثنى على أخلاق طه واجتهاده، إلا أنه استدرك مستشهداً بحديث رسول الله (ص) ‘’لا تعلموا أولاد السَفلة’’، مقرراً بجدية ‘’إن مناصب الشرطة والقضاء والمناصب الحساسة عموماً ينبغي أن تقتصر على أولاد الناس، لأن أولاد البوابين والكوائين وأمثالهم لو أخذوا أية سلطة سوف يستعملونها في تعويض بعض مركبات النقص والعقد النفسية التي أصابتهم في نشأتهم الأولى[5]’’.
طه، ذلك الشاب الطموح، الذي حصل على مجموع أكبر من أولاد كثيرين في العمارة، لا يحق له أن يحلم بأن يكون ضابط شرطة، فمكانه معروف مثل كل أولاد الفقراء. لم يكن له الحق في أن يكون شيئاً آخر غير ما هو مقرر لأمثاله، أولاد وبنات ‘’الناس اللي تحت’’. وعليه أن يبذل كل طاقته في كتم ما يشعر به من مهانة وللحفاظ على الحد الأدنى من آدميته في مواجهة ابتذالات الحياة اليومية. فإن هو عبَّر عن غضبه عوقب. والعقاب سيطال أهله أيضاً الذين لم يحسنوا تربيته فلم يرض بنصيبه من فضلات المترفين من سكان العمارة.
طه، ذلك الشاب المليء بحب الحياة نراه يُساق سَوْقاً إلى اليأس نراه فيما بعد يصرخ الله أكبر وهو يغتال ضابط شرطة أشرف على تعذيبه عندما كان موقوفاً. نعم، لقد صُرع طه في تلك المواجهة، إلا إنه وهو يسقط ‘’خُيل إليه أن الألم الرهيب يتلاشى شيئاً فشيئاً وأحس براحة غريبة غامرة تحتويه وتحمله في طياتها..[6]’’. لقد صار الموت بالنسبة إلى طه نجاةً من واقعٍ لم يرحمه.
لستُ أدري كم من طه هنا وهناك، أرجو من الله ألا يكون بين أولادنا وبناتنا من يرى في الموت نجاة من واقعٍ لا يرحم. إلا أنني على يقين بأن بالإمكان تحاشي توليدهم. ليس كما فعل فرعون بتقتيلهم أطفالاً ولا بقتل عزة النفس والآدمية فيهم وهم كبار، بل عبر العودة إلى نقطة البداية، فبلادنا ليست في حاجة إلى طه محمد الشاذلي.
[1] راجع: ‘’ملثمون في ستوكهولم’’، الوقت، 9 مايو/ أيار .2006
[2] راجع : حسن مدن ‘’دعوة الملك’’ – الأيام 24 ابريل/ نيسان .2007
[3] غسان الشهابي ‘’الذهاب الى منابع الصوت لا صداه’’ – الوقت 18 فبراير/ شباط .2007
[4] : علاء الاسواني ‘’عمارة يعقوبيان’’ مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الرابعة .2003
[5]، [6] المصدر السابق، الصفحات 29 و.343