في آخر هذه المجموعة من المقالات أستميح قارئ وقارئة هذه الصفحة أن أكرر إشارتي لعبارة «القانون حُمَار» المشهورة في اللغة الإنجليزية. وهي عبارة تُذكر كلما لجأت السلطة إلى أحد القوانين البالية أو المتعسفة أو المنافية للحس السليم وطالبت الناس باحترام ذلك القانون وما يفرضه عليهم من التزامات. والعبارة تلخص موقفاً يعتبر أن للقانون دوراً رئيساً في الحياة الاجتماعية يتمثل في المساعدة على تحقيق العدالة وإقامة الحق. وحين تعجز نصوص القانون أو تطبيقاته عن القيام بهذا الدور فإنه يصبح مدعاة للسخرية وهدفاً للعصيان. ومعلومٌ أن عبارة «القانون حمار وغبي» شاعت منذ أن استخدمها الروائي تشارلز ديكينز في رواية «أوليفر تويست» لا تصف الأحوال القانونية في إنجلترا وحدها. بل هي تترجم مشاعر الكثيرين في مختلف أنحاء المعمورة ممن تتعرض حياتهم ومصالحهم لأحكام قوانين بالية أو لتفسيرات وتطبيقات متعسفة لقوانين لا تتلاءم مع ما شهده ويشهده المجتمع من حراك وما يتطلبه ذلك من تأكيد التوافق الاجتماعي على منظومة القوانين السارية.
لا يحتاج أيٌ منا إلى أكثر من الحس السليم لكي نكرر ما قاله ديكينز حتى وإن لم نسمع به. وبطبيعة الحال يستطيع أيٌ منا متابعة الموضوع والتعمق فيه بما لديه أو لديها من أدوات بحث وتدقيق حتى يتأكد من صحة هذه المشاعر التي تلخصها عبارة ديكينز. أقول يتحول القانون إلى حمار بطرق عدة من بين أقربها إلى الذهن أن تعتبره الناس بالياً لا يراعي تطور المجتمع واحتياجاته. أو حين تعتبره الناس قانوناً ظالماً يثبِّت الفوارق في المجتمع بسبب حمايته لامتيازات تتمتع بها جماعة فيه أو تكريسه للتمييز ضد جماعة أخرى. أو حين تطبقه السلطة على فئات من الناس من دون أخرى. والقانون حمار حين يكون بإمكان السلطة أن تفسره بأشكال تتعارض مع الحس السليم وتخالف الحد الأدنى من أسس العدالة والإنصاف المتعارف عليها في المجتمع.
تتعدد الأسباب التي تقود الناس إلى الاقتناع بأن القانون حمار. ويؤسس هذا الاقتناع لمواقف أخلاقية عدة. أما الموقف الأخلاقي الأول فهو الموقف المشهور عن سقراط الذي زاوج بين واجب الفرد في معارضة ممارسات السلطة وواجبه في إطاعة أحكامها. ويتضح من إحدى قراءات هذه المزاوجة أن في عصيان تلك الأحكام هدماً للاستقرار اللازم لخير البلاد والناس. ومعلومٌ أن سقراط حوكم بتهمة أن دروسه أفسدت الشباب في أثينا. ولقد قبل سقراط قرار الحكم بإعدامه، بل ساهم في الإسراع في تنفيذ ذلك الحكم بعد أن رفض اقتراح أحد تلامذته بالهرب أو حتى التأجيل. أقولُ، كان سقراط يرى، فلسفياً، أن القانون الفاسد ليس قانوناً على الإطلاق. وهذه مقولة سيكررها فيما بعد القديس أوغسطين لتضع إحدى لبنات الحداثة في مجال القانون. إلا أن سقراط، من حيث الممارسة، كان يقول أيضاً إن على الفرد طاعة الأحكام حتى ولو كانت تستند إلى قانون فاسد. وأحسبُ أن من بين أصحاب هذا الموقف المزدوج الصحابي أبو ذر الغفاري. فلقد أصر على انتقاده العلني لممارسات السلطة كما استمر في تقبل أحكامها ضده. ففي الشام اتهمه واليها معاوية بإفساد الناس فيها فأعاده إلى المدينة. وفي المدينة استمر على نهجه المعارض رغم محاولات استمالته فقال قولته «لا حاجة لي في دنياكم» التي أسهمت في قرار نفيه إلى الربذة. وفي الحاليْن لم يرفض الغفاري حكم السلطة عليه، وقيلَ ساعد في تنفيذه.
أما الموقف الأخلاقي الثاني فيمكن تلخيصه في أن عصيان القوانين الفاسدة هي مسؤولية أخلاقية كما هو حقٌ طبيعي. ففي عصيان القوانين الفاسدة محاولة استباقية لحماية النفس من مخاطر الإرغام على المشاركة في أعمال ظالمة أو مخالفة للضمير الشخصي. وتتعدد الرموز التاريخية التي رسمت هذا الموقف الأخلاقي بمن فيهم المهاتما غاندي كما لا يخفى. إلا أنني سأكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى بعض أفكار القس مارتن لوثر كينغ التي تضمنتها رسالته الشهيرة باسم «رسالة من سجن بيرمنغهام» التي كتبها في أبريل/نيسان .1963 وتستحق الرسالة أن يقرأها الآن المهتمون بحقوق الإنسان وحكم القانون في كل مكان. ومعلومٌ أن كينغ كتبها من موقع رجل دين للرد على رجال دين آخرين انتقدوا فكرة العصيان المدني واعتبروا حركة الاحتجاج التي كان يدعو إليها دعوة متهورة وسيئة التوقيت وتزيد من حدة الانقسام العرقي في المجتمع الأميركي. شدّد كينغ في تلك الرسالة على «المسؤولية الأخلاقية التي تقع على عاتق الفرد وتلزمه بانتهاك القوانين الظالمة». ومعلومٌ أنه يرى أن هناك نوعيْن من القوانين: «قوانين عادلة» تجب طاعتها و«قوانين ظالمة» يجب عصيانها. ومعلومٌ أيضاً أن القوانين السائدة قبل أربعين سنة في جنوب الولايات المتحدة الأميركية كانت تُشَرْعِن التمييز ضد السود في مختلف المجالات بما فيها الوظائف العامة والتعليم.
أما الموقف الأخلاقي الثالث فهو الأكثر انتشاراً. وهو الموقف الذي يبرر أفعالنا الفردية حين لا نستطيع ممارسة حياتنا الطبيعة من دون مخالفة القانون، بل والسخرية منه والتحايل عليه. ورغم كثرة الأمثلة سأكتفي بمثاليْن قريبيْن لا نكاد نختلف فيهما وحولهما بغض النظر عن خلفياتنا. أولهما هو ما يفعله سائقو وسائقات السيارات في شوارع المنامة أو المحرق بعد أن يعجزوا عن إيجاد مواقف لسياراتهم. ومعلومٌ أن النتيجة هي الفوضى الغالبة على الشوارع في المدينتين. فالقوانين السارية التي تفرض المخالفة بعد الأخرى لا تتناسب مع سوء حال البنى التحتية في البلاد ولا مع مستوى تطور المجتمع، سواء من حيث أعداد السيارات أو أحجامها. ولهذا سيستمر كثيرون في مخالفة القوانين ماداموا لا يجدون حيزاً «شرعياً» لإيقاف سياراتهم ومادامت السلطة تكتفي بأن ترفع عليهم سيف القانون ولا تتيح للناس فرصة طاعته. أما المثال الثاني هو ما تفعله بالناس القوانين والأعراف التي تحكم الإعلام والتي لا تتيح مساءلة مسؤولين ومتنفذين. ولهذا لا يجد كثيرون من أصحاب الرأي سوى الكتابة على الجدران أو التخفي في المدونات والمنتديات الإلكترونية. فالقوانين والأعراف الحاكمة لم تعد تتناسب مع مستوى تطور المجتمع من حيث عدد أصحاب الرأي واتجاهاتهم وجرأتهم. ولهذا سيستمر أصحاب الرأي في مخالفة القانون ماداموا لا يجدون حيزاً «شرعياً» للتعبير عن آرائهم بما فيها انتقاد المسؤولين والمتنفذين ومحاولة مساءلتهم. أقولُ تتعدد الأمثلة وسأكتفي بما ذكرتُ، أي أخفّها.
[1] Paulson, Stanley L., Radbruch on Unjust Laws: Competing Earlier and Later Views?, Oxford Journal of Legal Studies, 1995, 15: 3, pages 489-500