على هامش مجلس 1973

مقال منشور في الوقت بتاريخ 2 أكتوبر 2007

سأبدأ اليوم بتذكير القارئ بأن ما هو متاح للعموم من أرشيف وثائق الخارجية البريطانية المتعلقة بالبحرين لا يحتوي جديداً لا يعرفه المهتمون بمسار التطور السياسي في البلاد. بل إن أغلب ما هو متاح للجمهور من معلومات وتفاصيل لا تفيد الباحث الجاد أكثر من إضافة هامش طريف إلى ما يكتبه.
نجد في الأرشيف تفاصيل ومعلومات هامشية بعضها له طابع شخصي يتعلق بكبار المسؤولين علاوة على المعارضة. وبطبيعة الحال توخيتُ مطالعة الإشارات المتناثرة المتعلقة بي شخصياً وبكتلة الشعب التي كنتُ أنتمي إليها في برلمان .1973 وسأتعرض هنا لمضمون رسالة سرية من السفير روبرت تيش إلى رؤسائه في لندن في 12 فبراير/ شباط 1974[1].
بعد أن يخبر السفير تيش رؤساءه في لندن بقرار إبطال عضويتي في المجلس الوطني يُخبرهم أيضاً بضرورة تعديل قائمة انتماءات النواب البحرينيين ”نحو الأحسن” حسب قوله نتيجة لقيام المحكمة بتعيين شخص آخر في مكاني. إلا أن السفير يضيف مفاجأة لم أتوقعها. فهو ينسب للأمير الراحل المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان الخليفة أنه ألمح له بأن إلغاء عضويتي في المجلس الوطني كانت ”عملية مدبّرة” وأنه، أي الأمير الراحل، لم يكن راضياً عن ذلك.
هذه ”المعلومة” ليست جديدة في حد ذاتها. فلقد وصلتنا تسريبات عنها منذ أن فشلت الجهود الحكومية لإقناع كتلة الشعب بالتخلي عن نيتها استصدار قرار من المجلس الوطني يطالب بإطلاق جميع سراح المعتقلين السياسيين. ولقد كان آخر تلك الجهود هو اجتماع ثنائي جمعني بأحد كبار المسؤولين لمدة قاربت الساعة مما تسبّبَ في تأخير انعقاد جلسة العمل الأولى للمجلس الوطني. وكما هو معروف لم يؤدِ اجتماعنا الثنائي إلى تغيير موقف الكتلة. بعد ذلك مباشرة بدأت إجراءات الطعن في صحة عضويتي. وفي ذلك السياق أشارت تسريباتٌ وصلتنا آنذاك إلى وجود اختلاف بين المسؤولين حول جدوى إزاحتي كإشارة تحذير لبقية أعضاء الكتلة. وبطبيعة الحال لم نهتم بتلك التسريبات فلقد كان تقديرنا أن الأطراف المتشددة في الحكومة لن تنجح في استخدام طردي من المجلس لتخويف الآخرين.
أتت ردود الفعل مثلما توقعنا. وأكدت التطورات التالية أن إسقاط عضوية عضو واحد من كتلة الشعب لم يؤدِ إلى تخويف البقية ولم يؤثر في إصرارهم على المضي حسب برنامج العمل المتفق عليه. فكما يعرف المتابعون لم تكن تلك الكتلة ملكاً لشخصٍ أو حتى لتنظيم. من جهة أخرى فلقد انقلب بعض السحر على الساحر. فبسبب صدور قرار المحكمة بطردي في بداية شهر محرّم قام منظمو بعض مواكب العزاء في المنامة وبعض القرى برفع ”الشيلات” المناسبة. ومن تلك الشيلات اشتهرت ”مال ميزان العدالة وفاز بالكرسي عميل/ من بعد سحب الثقة أصبح الكرسي هزيل” وغيرها من الشيلات السياسية التي أصبحت من خمسينات القرن الماضي إحدى المؤشرات على توتر أو استقرار الوضع السياسي في البلاد.
من خلال الرسالة نفسها (12 فبراير/ شباط 1974) نتعرف أيضاً على مقدار رضا السفير عن مجريات الأمور حين يشير إلى هدوء جلسات المجلس الوطني في الثلاثة الأسابيع الأخيرة. ويبدي السفير إعجابه بأن الوزراء قد أصبحوا أكثر قدرة على مواجهة النواب. فمن جهة انشغل النواب بالتنازع فيما بينهم حول تفاصيل اللائحة الداخلية للمجلس. كما أن الحكومة، حسبما يخبرنا السفير، تنوي إشغال النواب بمناقشة ثلاثة قوانين جديدة للصحة العامة والعقوبات الجنائية والعمل. ويكرر السفير إعجابه بهذه الخطة التي ستؤدي إلى إنهاء الستة الأشهر الأولى من عمر المجلس من دون مشكلات.
يسجل السفير إعجابه أيضاً ببعض الوزراء الذين أثبتوا قدرتهم على تفنيد إدعاءات النواب بوجود بطالة عن العمل في البحرين. وهو يؤكد أن الحكومة افحمت النواب حين أكدت بالأرقام أن عدد العاطلين عن العمل في البحرين هو في حدود 300 شخص فقط. ويورد السفير خبراً ذا دلالة عن اجتماعه ببعض الوزراء بعد تلك الجلسة حامية الوطيس التي أصر النواب فيها على وجود أزمة اجتماعية بسبب الأعداد الكبيرة من العاطلين. لسوء الحظ لا يخبرنا السفير عن دواعي ذلك الاجتماع وعما دار فيه. إلا أنه يذكر في سياق رسالته نفسها إنه حثَّ احد الوزراء الذين أبلوا في الدفاع عن إنجازات الحكومة في مجال سوق العمل على استخدام جاذبيته وقدراته الإقناعية على شاشة التلفزيون.
لن تفوت المتابعين ملاحظةُ أن الحكومة ظلت طيلة العقود التالية تنفي وجود البطالة عن العمل بل وظلت تكرر الرقم الذي ذكره وزير العمل آنذاك وردده خلفه الوزير ذو الجاذبية التلفزيونية. ولم يتوانَ المسؤولون عن الاختباء خلف المجازات والاستعارات البلاغية التي تصل إلى حدود القسوة اللفظية حين يُتهمَ العاطلون بأنهم كسالى وأنهم يتظاهرون بالفقر. فالحال الآن، في جوهره، كما كان قبل أكثر من ثلاثين سنة. فمازلنا نرى المسؤول في قمة الرضا عن نفسه حين ينجح في ”إفحام” الناس أو إسكاتهم بدل أن يسعى معهم لمعالجة ما يعانون من مشكلات من جذورها. فكأنما مجرد نفي وجود الظاهرة سيلغي الحاجة لمعالجة أسبابها وإزالة كل انعكاساتها السياسية والاجتماعية. وهكذا هو الحال فيما يخص أمور كثيرة، كبيرة وصغيرة.
لا يملك قارئ تقارير السفير تيش ورسائله قبل أكثر من ثلاثين سنة من التعجب من استمرار الأحوال على ما كانت عليه. على رغم ما حل بالبلاد وأهلها من مصائب طيلة العقود الماضية يستمر السلوك القديم والعقيم. فنحن نرى السلوك نفسه في إصرار الجانب الرسمي على عدم التعاطي الشفاف مع ما يسمى بـ ”التقرير المشهور” على رغم انتشاره بل وعلى رغم وجود نسخة منه في بيت كل المهتمين بالشأن العام. ونحن نرى السلوك نفسه عبر الإصرار على استخدام تعبير ”المتنفذ” في وقت يعرف كل الناس أسم من هو المقصود في كل حالة من الحالات. ومازال بين المسؤولين من يتخيل أننا سنتحول إلى أسرة واحدة تعيش في تبات ونبات بمجرد تحاشي الحديث عن الامتيازات العائلية والطبقية. ومازال بينهم من يتخيل أن نفي التمييز الطائفي ومنع الحديث عنه سيلغي الطائفية وتداعياتها السياسية والأمنية. وربما يجد بعض هؤلاء سفيراً آخرَ لدولة عظمى أخرى يقوم بتهنئتهم على نجاحهم في ”إفحام” المعارضين على غرار ما فعل السفير البريطاني روبرت تيش قبل أكثر من ثلاثين سنة.

الهوامش:
[1] رسالة سرية موجهة الى بي.آر.اتش. رايت، مكتب الشرق الاوسط، وزارة الخارجية البريطانية، لندن بتاريخ 12 فبراير/ شباط .1974