الخطوط الحُمر…..مرة أخرى

في أعقاب قيام قوات السلطة الخليفية بإقتحام بيت الشيخ عيسى قاسم وتفتيشه وإرهاب أهله كَثُرت الخطب والبيانات التي تهدد السلطة الخليفية بالويل والثبوروعظائم الأمور.   وهي, أي  الخطب والبيانات الأخيرة, وإن زادت حدة وكثرت عدداً إلا إنها لا تختلف في جوهرها عما تعودنا عليه في مثيلاتها كلما تمادت السلطة الخليفية في قمعها للناس وإذلالهم.  ففي كل مرة  يُقال أن ثمة خطٌ أحمر يجب على السلطة الخليفية ألا تتجاوزه وإلا.  بيدَ إن السلطة لا تعير للخطوط الحمر بالاً  فهي تعتمد على دعم حلفائها في الداخل والخارج كما تعتمدعلى قدرتها على تحريك موروث الغزو لتشطير معارضيها وإشغالهم بالتنافس فيما بينهم على فتات المال أو الجاه المشروط.

أشارالعلامة السيد الغريفي في كلامٍ صريح له مؤخراً   إلى أن السلطة تجاوزت خطوطاً حُمر كثيرة من قبل.   إلا أن السيد حفظه الله رأى  إن السيل قد بلغ الزبى حين إعتدت قوات السلطة الخليفية على منزل الشيخ عيسى قاسم  مما “يستدعي من العلماء والحوزات وخطباء المنابر وكل أصحاب الفكر والثقافة، استنفار خطاب الاستنكارللجريمة”.

ما بين الدعوة الإستنفارية التي أطلقها السيد الغريفي ,  حتى ولو إنحصرت في خطاب الإستنكار,  مسافة كبيرة تفصلها عن نهج المسايرة و كذلك عن تصريحات الترويج  لـ “الملكية الدستورية على الطراز المغربي”. و مما يزيد من أهمية دعوة السيد الغريفي الإستنفارية هو تزامنها مع تلميح  الشيخ علي سلمان أمين عام جمعية الوفاق عن الحاجة إلى “إعادة رسم الإستراتيجيات في الأهداف والوسائل”.

رغم ما لكلام العلامة السيد الغريفي والشيخ علي سلمان من أهمية بسبب ما لهما من موقع رمزي لدى جمهور واسع في البحرين إلا إنه يأتي في وقتٍ نسمع فيه أيضاً  كلاماً لمن لم يفقدوا الأمل في  أن يتحرك حمائم  السلطة الخليفية  فيبادرون  إلى “تصحيح المسار”.   أو كلاماً  لمن لمْ يفقدوا الأمل في أن يضغط الراعي الأميركي على حليفة السعودي ليضغط هذا بدوره على ربيبه الخليفي لكي تعود الحال إلى ما كانت عليه قبل إنتفاضة 14 فبراير 2011 . فحينها كانت الوفاق ممثلة في البرلمان وحينها أيضاً كان السلطة وكبار ورجال الدين يتبادولون زيارات المجاملة.

ما أبعد ذلك الزمان. فلقد تغيرت البحرين بعد 14 فبراير 2011.  وأصبح من الصعب إغواء الناس بقصص عن “صراع الصقور والحمائم ة داخل العائلة الخليفية”. ,أصبح من العسير تسويق “الدور الديمقراطي” الذي سيلعبه الراعي الأميركي.  فلقد  كتب الناس  بمعاناتهم منذ  15 مارس 2011  تاريخاً جديداً لبحرين أخرى غير تلك التي كانت قبل أن يبدأ حراك 14 فبراير.  وشاهد الناس أن لا  “حمائم” ألخليفة و لا الراعي الأميركي  تحركوا حين سُفكت الدماء البريئة في شوارع البحرين وأزقتها وفي زنازن التعذيب ولا حين أُعتقلت الرموز القيادية والنشطاء الحقوقيون ناهيك عن ملاحقة و إعتقال آلاف المشاركين في الإحتجاجات من الرجال والنساء والأطفال.  ولم يتحرك الراعي الأميركي ولا حمائم آلخليفة حين هُتكت الكرامات والأعراض في المعتقلات وخارجها.  ولا حين هُدمت المساجد والحسينيات. ولا حين إنتشرت في إعلام السلطة ومواقعها الدعوات لقطع الأرزاق عن طريق المقاطعة التجارية والفصل من الوظائف الحرمان من الدراسة ناهيك عن سحب الجنسيات وبيانات التخوين وإعلانات تلويث السمعة.

لقد عدّد العلامة السيد الغريفي, وهو محقٌ, عدداً من الخطوط الحمر التي تجاوزتها السلطة الخليفية منذ مارس 2011 .  إلا إن السلطة الخليفية لم تتجاوز تلك الخطوط الحمر التي ذكرها السيد وغيرها  بسبب الرعونة وغرور القوة  وبسبب سوء السياسة فحسب.  بل لأنها , فوق ذلك,  تعلم إنها تستطيع بإشارات مبهمة أو بوعود غامضة أن تجتذب إلى “مشروع إصلاحي جديد”  بعض القيادات السياسية ورجال الدين والوجهاء.   وهي تعلم أيضاً وبالإستناد إلى خبرة طويلة إن هؤلاء سيساعدونها على أن تفتح صفحة جديدة في كتاب الإخضاع والخضوع.  والسلطة الخليفية تعلم  أيضاً إن من تجتذبهم إلى مشروعها سيقومون, كما هو الحال في كل مرة,  بتسويق “المشروع الإصلاحي الجديد”  وإقناع الناس, مرة أخرى,  بأن يرتفعوا فوق آلامهم وأن يثقوا بوعود الحمائم الجدد.

مهما تكن نتائج الدعوة الإستنفارية التي أطلقها السيد الغريفي  ومهما يكن المقصود من الدعوة إلى “إعادة رسم الإستراتيجيات” فإن الدعوتيْن تشيران إلى إقرار بإنسداد الطريق الذي سارت عليه قوى المعارضة الرسمية وفي مقدمها جمعية الوفاق منذ إعلان دستور 2002 . وهذه خطوة أولى لا يمكن التقليل من أهميتها في حال ثباتها.

ولكن هل ستقود مساعي “إعادة رسم الإستراتيجيات” إلى التخلص من غلاة دعاة نهج المسايرة  والحالمين بما سيحمله لهم إنتظار الفرج على أيدي الملك وولي عهده أو السفير الأميركي؟ وهل ستتضمن مساعي “إعادة رسم الإستراتيجيات” إعادة النظر في الموقف المتعنت تجاه القناعات التي طرحها كثيرون من رموز المعارضة ونشطاؤها. ومن بين هذه القناعات رفض أن يكون مستقبل البحرين مرهوناً لإستمرار حكم آلخليفة  , ومنها أيضاً التأكيد على خطورة إخضاع المعارضة لقيادة مركزية لا يمكن مساءلتها أو إنتقادها.

لن يحتاج أحدٌ للإجابة على هذيْن السواليْن وغيرهما ولا لإعادة “رسم الإستراتيجيات” وفوق ذلك لن يتورط أحدٌ في مواجهات جدية مع السلطة إذا ما قررت السلطة الخليفية أن تستجيب لدعوة “المبادرة”  بالإعتذارإلى الشيخ عيسى وتقديم  قائد الدورية التي إنتهكت حرمة بيته وروّعت أهله كبش فداء مقابل إعادة المياه إلى مجاريها.

.