أعيد نشر هذا المقال بمناسبة وقاة سفاح البحرين إيان هندرسون قبل أيام
في الفصل الثامن من كتابه «البحرين 1920-1971 قراءة الوثائق البريطانية«[1]، يتعرض أخونا سعيد الشهابي إلى بعض تفاصيل استقدام أيان هندرسون إلى البحرين في العام .1966 فمن جهة أثبتت انتفاضة 1965 أن الحركة الوطنية قد تغلبت على الضربة التي تلقتها قبل ذلك بتسع سنوات حين اعتقل قادة هيئة الاتحاد الوطني، وتم نفي بعضهم بعد محاكمة صورية. بل إن الحركة الوطنية أثبتت قدرتها على اتخاذ المبادرات الجريئة حين قامت جبهة التحرير الوطني بتنفيذ الهجومَين المزدوجَين اللذين أديا إلى إصابة المسؤول البريطاني عن الجهاز الأمني ومساعده الأردني بإصابات بليغة. ومعلومٌ أن تلك العملية الفدائية أدت أيضاً إلى إعطاب الجهاز الأمني نفسه علاوة على ما بثته من رعب في قلوب عناصر ذلك الجهاز والمتعاونين معه. ولعل في هذا ما يفسر ما نلاحظه في الوثائق البريطانية من إلحاح لندن والمعتمد البريطاني في البحرين على التعجيل باستدعاء هندرسون حتى قبل صدور موافقة السلطات المحلية بحسب ما تتطلبه الشكليات البروتوكولية. فما كان يهم البريطانيين ليس مشاعر المسؤولين المحليين ولا حتى شكليات العلاقة السياسية، بل أولاً وأخيراً الإتيان بمسؤولٍ قادر على إعادة بناء الجهاز الأمني وإعادة هيبته المفقودة عبر زرع الخوف في صفوف الناس.
يستند الشهابي إلى كتاب «الماوْماو وكينيا – تحليل لثورة فلاحية» الذي ألفه في التسعينيات الأكاديمي الكيني وونياباري مالوبا[2]. ففيه يشرح مالوبا مختلف أطوار السياسة الاستعمارية وكيف دمّرت كينيا وأفقرت أهلها وكيف حولت الاختلافات القبلية واللغوية إلى خلافات ونزاعات دموية. رغم إيلامها وما تتضمنه من مآسٍ لا تختلف الصورة البانورامية التي يرسمها مالوبا عن الممارسات الاستعمارية في بلاده عن غيرها من البلدان التي عانت من القهر الاستعماري، إلا أن القارئ البحريني سيهتم بمعرفة تفاصيل دور هندرسون في قمع حركة الاستقلال الكينية. كذلك بمعرفة أن أكبر مؤهلات المذكور كانت عنصريته التي تفسر قسوته البالغة تجاه الأفارقة السود والهنود من مناهضي الوجود الاستعماري في كينيا.
ولم تكن تلك القسوة تقف عند حدود أخلاقية أو دينية. فبريطانيا بالنسبة إلى هندرسون هي فوق الجميع. علاوة على تلك الصورة البانورامية يتناول الكتاب تفاصيل تستحق أن نتفكر فيها لعلاقتها المباشرة وغير المباشرة بالمسار الذي اتخذه تاريخنا منذ أبريل/ نيسان ,1966 أي منذ ذلك اليوم البائس الذي حطت فيه الطائرة البريطانية في مطار البحرين لينزل ذلك الضابط ذو اليدَين الملطختَين بدماء آلاف الكينيين من المناضلين في سبيل الحرية والكرامة.
جاء هندرسون إلى البحرين بتلك الحقيبة العنصرية بما فيها من ازدراء قيمة البشر الآخرين واستهتار بأمنهم وبأرواحهم. لا يختلف هندرسون عن آخرين في موقعه الأمني نفسه فيما كان يمتلكه بخبرة متميزة وطويلة في تجنيد العملاء والمخبرين وزرع العملاء أو ما يسمى «اختراق» التنظيمات المعارضة. فهذا ما يفعله أو يسعى إليه كل جهاز أمني. إلا أن هندرسون كان متخصصاً في تجنيد كوادر قيادية بعد تعريضها إلى غسيل الدماغ قبل إعادة زرعها في تنظيمات المقاومة الكينية. أسارع للإشارة إلى تأكيد مالوبا على أن قدرات هندرسون وقفت عاجزة تماماً أمام صلابة غالبية المناضلين الكينيين. فلولا تلك الصلابة والإصرار على المبادئ لما تحررت كينيا ولما طُرد هندرسون منها.
جلب هندرسون خبرته في غسل الأدمغة وتجنيد الكوادر القيادية معه إلى البحرين. ولا أكشف الآن سراً حين أقول إن هندرسون جرّب حظه منذ الأيام الأولى لعمله في البحرين مع عددٍ من معتقلي انتفاضة 1965 الذين بقوا في سجون البحرين ومعتقلاتها. ولا أكشف سراً أيضاً حين أشير إلى أنه نجح في تجنيد قيادي بارز سأسميه، لمنع الحرج السيد «إكس – X». بل ونجح في إقناعه بضرورة عودته لممارسة «النضال» بعد إطلاق سراحه. وبالفعل عاد المذكور إلى ممارسة مهماته في قيادة التنظيم الذي كان ينتمي إليه. علاوة على مسؤولياته في الداخل شملت مهماته القيادية أنشطة تنظيمية في الخارج أيضاً. لا شك لديّ أن «إكس» كان ممثلاً بارعاً وإلا لأثار شكوك الآخرين ممن تعامل معهم في تنظيمه أو في التنظيمات الوطنية الأخرى. إلا أنني مازلت، منذ افتضاح أمره في العام ,1974 عاجزاً عن فهم كيف استطاع «إكس» أن يخدعنا جميعاً لمدة ثمان سنوات؟ قد نجد الجواب في السذاجة الكامنة التي تفترض الثقة العمياء وتفترض أن من صَدَق معنا مرة سيظل صادقاً طوال حياته. أو في الروحية التي تجعل بعضنا يمارس الحياة كما كان أجدادنا يمارسونها في مجتمعات ما قبل النفط فنصدق الوعود من دون ضمانات، ونأخذ بظواهر الأمور من دون أن نُتعب أنفسنا بالبحث عما يتخفى وراءها. ولكن هذا لا يكفي للجواب. يطرح مالوبا تفسيراً لنجاح «إكس» وأمثاله في خداع الآخرين، وخصوصاً المناضلين الذين يُفترض فيهم الحذر والقدرة على التقاط الدلائل المريبة. فبحسب ما يرى مالوبا كانت براعة هندرسون تكمن في ربطه التجنيد بغسيل الدماغ، بحيث صار العميل المجند لا يرى في عمالته ما يشين. بل ربما رآها عملاً وطنياً يؤدي إلى تنظيف البلاد من التطرف أو دعاة العنف إلى ما إلى ذلك من توصيفات. بل ربما رأى نفسه بطلاً يؤدي دوراً تاريخياً. ناهيك، بطبيعة الحال، عن المردود المالي وعن وعود الوجاهة القادمة.
يضيف مالوبا أن هندرسون نجح أيضاً في أن يَحُول دون أن تبقى العمالة سُبّة أو سبباً لجلب العار على العميل أو أهله أو أصحابه. ولعلنا، من دون أن ندري، ساعدنا هندرسون في تحقيق هذا الهدف. ففي الخمسينات كان إعلان قيادة هيئة الاتحاد الوطني أن فلاناً هو من العملاء يكفي لعزله اجتماعياً بحيث لا يزور ولا يزار. بل أدى إعلانٌ من هذه الإعلانات إلى مقاطعة شعبية لإحدى «الحسينيات» الكبرى في المنامة لعقود طويلة بحيث اضطر القائمون عليها، حسب الرواية الشعبية، إلى «استيراد» المعزين. أما نحن فتركنا «إكس» وأمثاله يمارسون حياتهم الاعتيادية بيننا حتى بعد اكتشاف أمرهم. أسارع للتأكيد على أنني لا أدعو إلى تخوين هذا أو ذاك بسبب آرائهم أو معتقداتهم أو مواقفهم السياسية والأخلاقية. لكن ثمة فرقاً بين الرفض الصارم لأي نوع من التخوين بسبب الرأي أو الموقف السياسي وبين قبول أن يبقى يفاخر بعضُنا بأمثال «إكس» وبوجودهم في واجهة الحركة الوطنية.
[1] سعيد الشهابي، البحرين 1920 -1971 قراءة في الوثائق البريطانية، دار الكنوز الأدبية، .1996
[2]Wunyabari O. Maloba, Mau Mau and Kenya- An analysis of a Peasant Revolt, Indiana University Press, 1999
__________________
المقال منشور في الوقت البحرينينة
http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6127