الديمقراطية .. هي المخرج

الطليعة : العدد 926 ، 25 يناير1986

http://blog.altaleea.com/?p=119

بقلم / د. عبدالهادي خلف

على الرغم من حداثتها والهشاشة الناجمة عن ذلك، وعلى الرغم مما تتعرض له من ضغوط خارجية وداخلية، وعلى الرغم من مخاطر النكوص، تبقى الحياة البرلمانية الكويتية الشكل الديمقراطي اليتيم في منطقتنا الشاسعة. ويبقى الكويتيون شعبا ونظاما متميزين بين أشقائهم الخليجيين، وقادرين على الاشارة إلى مجلس الأمة باعتباره ثمرة لنضال عشرات السنين ورمزا لغلبة التعقل وخطوة هامة باتجاه ديمقراطية حقة.

ولقد جاءت المناقشات المسؤولة التي دارت في أروقة مجلس الامة عندما طرحت إجابة وزير المالية على سؤال الأخ النائب العنجري، جاءت لتؤكد للمتتبعين من خارج الكويت أن مجلس الأمة الكويتي يقوم أيضا بمهمة»تمثيل «أبناء دول مجلس التعاون الأخرى. وان المناقشات التي يقوم بها اعضاؤه لا تدور حول موضوع كويتي بحت، بل حول مواضيع خليجية مشتركة. وأن المناقشات لا تدور حول تصرف غير مقبول في المال العام، ولا تدور حول هذا الجانب أو ذاك من الوضع الاقتصادي أو السياسة العامة، بل هي تدور حول جذر  الأزمة التي تعيشها جميع بلدان مجلس التعاون دون استثناء.

وجها الأزمة

ولهذه الأزمة، كما نراها، وجهان متلازمان أولهما تصميم أنظمة الحكم في دولنا على ممارسة السلطة كحق لا يحق لها مساءلتها عنه، وثانيهما رغبة هذه الأنظمة في أن تكون شرعية ومقبولة من مواطنيها.

وكما هو واضح فإن الوجهين متناقضان رغم تلازمهما لدى جميع أنظمتنا دون استثناء. فالوجه الأول يفترض استمرار السلطة غير الخاضعة للمساءلة واستمرار إمتيازات أفرادها ويفترض خضوع أو اخضاع المواطنين ( الرعايا في هذه الحالة ) بأي شكل من الأشكال. أما الوجه الثاني فيفترض تنازلات أهمها خضوع الأنظمة وأفرادها للمساءلة وتحملهم تبعات ممارساتهم للسطلة.

وحيث أن التناقض بين الوجهين هو تناقض بنيوي فإنه يزداد حدة أو ينقص تبعا لطبيعة بنية المجتمع، ولمدى تطور العلاقات الاجتماعية فيه ، وحجم القاعدة الاجتماعية للأنظمة، وبالمقابل حجم القاعدة الاجتماعية المتضررة من ممارسات الأنظمة لسلطاتها.

وحيث أن التلازم بين الوجهين هو تلازم بنيوي فإنه يزداد وضوحا أو يقل تبعا لقدرات الأنظمة على السيطرة على أدوات الحكم وعلى التحكم في أشكال المعارضة وحجمها ومطالبها.

ولقد رأينا التلازم بين الوجهين، ورأينا تناقضهما بوضوح شديد خلال عقد الطفرة النفطية. فلقد وفرت الموارد المالية لعوائد النفط منذ 1973 قدرات هائلة لدى الأنظمة كي تمارس حقها في السلطة دون حاجة للبحث عن إضفاء الشرعية على ذلك الحق. ولقد أمكنها ذلك بما قدمته من تسهيلات واغراءات أدت إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية.

وأدت هذه التسهيلات والاغراءات إلى ان تتناسى شرائح وفئات اجتماعية مطالبها السياسية. أو ان تنشغل عنها. ومع أن هذه الشرائح والفئات تركزت في أعلى الهرم الاجتماعي. الا أن انعكاسات »رخاء« عقد الطفرة النفطية والآمال المعقودة على استمراره شمل ايضا شرائح وفئات تنتمي واقعيا إلى قاعدة الهرم الاجتماعي.

شرعية.. بلا تنازلات سياسية!

لقد وفر رخاء عقد الطفرة النفطية للأنظمة إمكانيات الحصول على »الشرعية« دون أن تقدم تنازلات سياسية بل ومكنها من النكوص عن عدد من الانجازات التي تحققت بفضل نضال التحالف الاجتماعي الواسع الذي ارتكزت عليه المعارضة قبل عقد الطفرة النفطية.

ففي ظل رخاء الطفرة النفطية تم التراجع عن انجازات ديمقراطية، وتم احتواء مطالب الحركة الجماهيرية وتمت إعادة صياغة حركة المجتمع لتتلاءم مع »ضرورات« الاستقرار الاجتماعي كما تصورتها الأنظمة والفئات الاجتماعية المستفيدة من ممارساتها، وهي فئات رأيناها تتزايد طوال عقد الطفرة النفطية.

ولقد تناست هذه الفئات الاجتماعية، أو انشغلت، عن حقيقة انها لا تستطيع ان تنمو بشكل طبيعي إلا في مناخ ديمقراطي حقيقي. وان منافع رخاء الطفرة النفطية هي منافع مؤقتة مرتبطة بتقلبات سوق عالمية لا حول لها ولا قدرة على التأثير فيها.

ولهذا رأينا هذه الفئات غير راغبة في الاعتراض على وقف المسيرة الديمقراطية ولا على حل مجلسي البرلمان في البحرين والكويت، ولا على تمرير القوانين والمراسيم والأنظمة المجحفة والتي لم تؤد الا إلى تكريس حق الأنظمة في ممارسة السلطة بدون مساءلة.

وبالمقابل، وفي ظل الرخاء وفي ظل الرغبة في تحقيق الاستقرار، تمكنت الأنظمة من المضي قدما في مساعيها لاسكات الأصوات المعارضة الأخرى التي كانت تعبر عن هموم المتضررين من ممارسة السلطة بدون شرعية.

التناقض المزمن

قلنا أن التناقض بين ممارسة السلطة لـ«حقها» وبين الرغبة في الشرعية، هو تناقض مزمن في منطقتنا  ولقد كان بالامكان إخفاء هذا التناقض بما توفر من موارد هائلة طوال عقد الطفرة النفطية الا ان التناقض باق ويزداد بروزا بعودته الى السطح مرة أخرى مع بروز الضائقة الاقتصادية التي تمر بها بلدان منطقتنا.

فعلاوة على حقيقة أن الضائقة الاقتصادية قد قلصت قدرات الأنظمة على الاستمرار في ارضاء قاعدتها الاجتماعية بالأشكال التي كانت سائدة منذ عشر سنوات، فإنها كشفت بوضوح شديد أن المناخ الذي ساد طوال تلك السنوات كان لمصلحة الأنظمة اكثر مما كان لصالح قاعدتها الاجتماعية، والتي بدأت تعي، وان بشكل متأخر، أن تنازلاتها للأنظمة كانت أكبر من الثمن الذي حصلت عليه.

من الجهة الأخرى اثبتت الأيام أن قوانين القمع والممارسات غير الديمقراطية ضد أصوات المعارضة، والتي وصلت في حالات كثيرة إلى حد التصفية السياسية، لم تلجم هذه الاصوات ولم تمنع نموها وسعيها لاستعادة زمام المبادرة بل أن هذه المعارضة تشهد، مرة أخرى، اتساعا ناجما عن إتساع قاعدة المتضررين من الضائقة الاقتصادية الراهنة وانعكاساتها، والمتضررين من الاجراءات المتخدة لمعالجتها.

وكل هذا يعيد الأنظمة في بلداننا إلى مواجهة مأزقها الحقيقي كيفية ممارسة السلطة وكيفية الحصول علي الشرعية.

ولقد كانت الاتجاهات العقلانية في السلطة الكويتية سباقة إلى تلمس الطريق المؤدي إلى الخروج من هذا المأزق. فلا القمع يكفي ولا الرخاء المؤقت يكفي ولا التنازلات الشكلية تكفي كأساس لاستمرار ممارسة السلطة وتأكيد شرعيتها.

الاختلاط بالغمار

كما لا يمكن ممارسة السلطة بشكل شرعي دون رضا القاعدة الاجتماعية، واعتمادا فقط على الحسب والنسب.

فما شهدته بلداننا منذ بدء تحولها إلى السوق الرأسمالية قبل أكثر من نصف قرن أحدث تغيرات جوهرية في قيمة الحسب والنسب. وهذه التغيرات هي التي لمسها ابن خلدون حين كتب في مقدمته »وقد يكون للبيت شرف أول بالعصبية والخلال ثم ينسلخون منه لذهابها بالحضارة كما تقدم، ويختلطون بالغمار ويبقى في نفوسهم وسواس ذلك الحسب يعيدون به أنفسهم من أشراف البيوتات أهل العصائب وليسوا منها في شيء لذهاب العصبية جملة«.

هذا»الاختلاط بالغمار« كما سماه ابن خلدون والذي يشمل أن يمارس حكامنا التجارة وغيرها من أوجه النشاط الاقتصادي كغيرهم من المواطنين، هذا الاختلاط يعني من بين ما يعنيه أن اسس الحكم الفردي وبدون مساءلة لم تعد قائمة رغم وسواس الحسب، الباقي في النفوس.

بطبيعة الحال فإن هذه الظاهرة موجودة في جميع بلداننا الخليجية دون استثناء.

ولقد أشار إلى هذا الأمر أخونا الدكتور عبدالله النفيسي في أحدى مداخلاته البرلمانية بقوله ان هناك »ظاهرة غير شرعية موجودة في الكويت وفي الخليج والجزيرة الا وهي ظاهرة الحكم والتجارة. وهذه الظاهرة هي الازمة اليوم: عندنا في الكويت إصرار من فئة تحكم ومتنفذة على ان تكون طرفا في السوق تريد أن تربح وان تراكم الأرباح«

ولا شك ان أحد لا يطالب هذه الفئة المتنفذة ولا شقيقاتها في بلدان الخليج الأخرى ان تبتعد عن السوق أو ألا تراكم الارباح كغيرها من فئات السوق. فلقد اختلطت هذه الفئة وشقياتها بالغمار واضحت جزء لا يتجزأ منه. ولم يعد بإمكانها العودة إلى ما في نفسها من  »وسواس الحسب« على حد تعبير ابن خلدون.

ان طبيعة تطور مجتمعاتنا تفرض هذا الاختلاط باعتبار ان الطبقة المتنفذة اقتصاديا لا بد وان تكون متنفذة سياسيا. باعتبار أن النفودذالسياسي لابد وان يكون انعكاسا لنفوذ اقتصادي. وحيث ان الشرائح الاجتماعية المتنفذة سياسيا في بلداننا لم تعد، وخاصة في العقود الأخيرة، تكتفي بمواردها الريعية، بل انخرطت بالكامل في العملية الاقتصادية وأصبحت شريحة» اعتيادية «تراكم الربح وتتزاحم عليه، لذلا فمن البديهي ان تتقبل اضطرارها لتقديم تنازلات تتلائم مع مكانتها الجديدة ومع الأسس التي تقوم عليها هذه المكانة.

واذا كانت الأوساط العقلانية في النظام الكويتي قد تفحصت هذه الحقيقة واستوعبت مترباتها، فإنها حظيت بالمقابل على تأكيد شرعيتها وازدياد قبول الجمهور لممارساتها للسلطة.

ومع إقرارنا بأن الطريق مازال طويلاً، وإننا مازلنا في بدايته كما تؤكد لنا المناقشات التي تدور في أروقة مجلس الأمة الكويتي، إلا أننا لا نملك إلا تثمين سعي هذه الأوساط العقلانية لاستيعاب دروس التاريخ رغم الضغوط الداخلية منها والخارجية ورغم مخاطر النكوص.

ولعل ما يجري في الكويت يسهم في تسريع عملية التغيير والاصلاح المطلوبة على مستوى دول مجلس التعاون جميعها. إذ تثبت الحياة البرلمانية أن شرعية السلطة لا تتأتى الا عن طريق واحد، هو الاقرار غير المشروط بحق الشعب في أن يحكم نفسه ومن خلال المؤسسات الدستورية التي تمثله حقا، لا المؤسسات التي عفا عليها الزمن، أو التي لا يقصد منها الا التجميل الخارجي.

وإذا كان ابن خلدون قد تحدث عن ان»الظلم مؤذن بخراب العمران« فإنه تحدث أيضا عن»ان حصول النقص في العمران عند الظلم والعدوان هو أمر لا بد منه، ووباله عائد حتما على الدولة. «ولعل هذا يصف أكثر ما يصف حال منطقتنا في ظل الضائقة الاقتصادية (نقص العمران ) وفي ظل غياب الديمقراطية (الظلم والعدوان) وهو يصف بوضوح كبير طبيعة المأزق القائم: كيف تمارس السلطة سلطتها بشكل شرعي؟؟.

* الطليعة : العدد 926 ، 25 يناير 1986

http://blog.altaleea.com/?p=119