من المعايشة إلى المسايرة

سعدتُ بالنقاش الذي أثاره مقالة  سابقة عن موجة الأعراس الجماعية التي أشرتُ فيها إلى دور التنسيق القائم بين الديوان الملكي ونواب الوفاق ومشايخ المجلس العلمائي في إدامة التشطير العمودي للمجتمع. ولقد استفدتُ من أغلب التعليقات التي وصلتني مباشرة أو التي قرأتها في مواقع إلكترونية وخاصة في ”ملتقى البحرين”ا”

ولم أستغرب أن يركز قراءٌ على فقرة وآخرون على فقرة أخرى، فهذه هي طبيعة فعل القراءة الذي يجعل الكلمة المكتوبة ملكاً لقارئها ليفهمها كما يريد.    أحد التعليقات اعتبر ملاحظاتي إعلاناً عن ”توبة” وإيذاناً بعودة ”الأقلام الضائعة” إلى رشدها.    لكنه سارع إلى تذكيري أن الوقتَ ”متأخرٌ بعض الشيء” للتوبة.    وهناك من رأى في ملاحظاتي إشادة بالشيخ المدني وانتقاداً لجمعية ”الوفاق” ومن خلفها المجلس العلمائي.    من جهتي أقول رحم الله إمرأً عرفَ قدر نفسه.     فلا يحتاج أبو طاهر إلى تزكيتي وهو بين يدي ربِّه. ولن تستمع الوفاق أو المجلس العلمائي إلى انتقاداتي فهما لا يستمعان حتى للقريبين منهما.   فما بالك بيساري عتيق مثلي.

لرفع بعض اللبس أكرر هنا ما قلته حول أن المرحوم الشيخ سليمان المدني يتميز عمن يسيرون الآن على نهجه بصدقه مع نفسه وصراحته مع الناس. إلا أن هذا لا يغير موقفي المختلف عن أبي طاهر ونهجه. فلقد كان أحد أعمدة نظام التشطير الذي أعاق وما زال يعيق إنجاز بناء الدولة الدستورية ومؤسساتها التي توفر شروط التساوي بين مواطنيها.

معلومٌ لدى المتابعين من أنصاره ومعارضيه اقتناع المدني بأمريْن أولهما خطورة المواجهة مع النظام بأي شكلٍ من الأشكال وثانيهما عدم جدوى مجانبة النظام والاعتزال عنه.    ولهذا تبنى طريق الموالاة أو ما يُعرف بنهج ”المعايشة” والالتزام بالعمل من خلال ما يتيحه النظام من قنوات رسمية وشبه رسمية. وكان مؤمناً بضرورة ترْك المعسور والاكتفاء بأخذ الميسور.    ولا يخفى أن نهج المدني في المعايشة لا يختلف جوهرياً عن نهج المسايرة الذي مهد للتنسيق بين الديوان الملكي ونواب الوفاق ومشايخ المجلس العلمائي وأدى إلى تنظيم حفلات الزفاف الجماعي التي شهدتها أو التي ستشهدها مختلف مناطق البلاد.   ولا مراء في أن المعايشة والمسايرة تخففان من بعض أعباء الناس عبر جهود الوساطة التي يقوم بها وجهاء التعاضديات لدى النظام.     من جهة أخرى فلا مراء أيضاً في أن النهجيْن يسهمان في تكريس الواقع القائم على تشطير المجتمع إلى تعاضديات متزاحمة بل ومتعادية بما يقود إلى إجهاض جهود بناء وطن وتأسيس دولة.
أ

قولُ – ومن موقع المخالف لنهج المرحوم المدني – إنه لم يخفِ علاقته الحميمة بالسلطة وأهلها حتى في أحلك الظروف التي مرت بها البلاد. بل لقد أصر على موقفه الموالي رغم غضب الكثيرين عليه وازدراء بعضهم له. وهو لم يتخفَ وراء الشعارات الرنانة أو الهتافات أو العبارات حمّالة الأوجه. بل رأيناه يرّكز على توفير الخدمات لمريديه وأنصاره وأتباعه بدلاً من الدعوة لبناء الدولة ومؤسساتها ولإنهاء الامتيازات العائلية والتمييز الطبقي. نعم لقد مضى المرحوم المدني بعيداً في تعايشه مع السلطة حين اعتبر الوطنيين الداعين لتلك الأهداف كفرةً وأعداءً يتوجب استئصالهم. وهو موقفٌ يتماهى مع موقف المتشددين في السلطة الذين اعتمدوا على دعمه لهم في سعيهم لتمرير مرسوم أمن الدولة في السبعينيات وما تلاه من قمع وصل إلى أوجه في التسعينيات.

ومعلومٌ ما قاله الشيخ المدني عن أنه لا يفهم معنى ”الفصائل الوطنية[1]”. فالمواطن عنده ”هو المسلم فقط، أما من ولد من مسلمين ثم لم يؤمن بالإسلام فحكمهم في الشريعة باتفاق الفقهاء هو القتل، وإذا أعلن التوبة نعطيه فرصة لقضاء ما فاته من صلاة وصيام ثم يقتل أيضا حداً”. فالمنتمون للفصائل الوطنية في نظره هم خارج الملة والوطن في آنٍ واحد. ولهذا لا تجوز لهم المشاركة في العمل السياسي وصناعة القرار. بل لا يجوز في نظره بقاؤهم على قيد الحياة. فهو يسّفه القائلين بأن الدين لله والوطن للجميع لأن الوطن لله ولا يجب أن يبقى عليه إلا المؤمنون. بطبيعة الحال لا تتفق غالبية الناس مع رأي المدني. لكن أليس هذا هو الموقف المستور لبعض من يسيرون الآن على دربه؟ أليس هو نفسه موقف من لا يروْن دوراً للفصائل الوطنية ويعتبرون نضالها حبراً على ورق؟ أليس هو نفسه موقف من يعتبرون التعاون مع القوى الوطنية الأخرى نوعاً من التمكين المذموم حتى لو اقتصر التعاون على إلقاء كلمة في مأتمٍ لتأبين شهيد؟
أ

قولُ لم أتقبل نهج المدني لكنني لا أستطيع اتهامه بأنه كان يعلن شيئاً ويضمر شيئاً آخر. فلقد اعتبر المدني ارتباطه الحميم بأهل السلطة وسيلة سياسية رئيسة لتحقيق أهدافه. ولهذا رتب أجندته السياسية بما يلائم السلطة ودوام نعمتها عليه وعلى مريديه. وهذا هو بالضبط الموقف الذي أزعمُ أنه يتبلور الآن من جديد. فما أصعب تحقيق الوعود الكبرى المتعلقة ببناء الوطن وإنجاز بناء الدولة الدستورية بالمقارنة إلى سهولة تنظيم حفلات الزفاف. وما أسهل التوسط لدى أهل الحكم لرفع الحيف عن مظلوم أو لسد حاجة محتاج لمسكن أو عمل بالمقارنة إلى تقنين حقوق المظلومين والمحتاجين. وسواءً وصفنا ما يحدث الآن ”معايشة” أو ”مسايرة” فهي في واقع الأمر صفقة مقايضة آخر كلامها هو من كلام المدني: ”خذوا الميسور واتركوا المعسور”.
أ

سارع للتأكيد على أن هذه الملاحظات ليست افتراءات يساري حاقد بل هي نتاج متابعة دؤوبة لنشاط جمعية لي فيها بعض أصحاب أخاف عليهم وعلى البلاد من استمرار انزلاقهم في درب لا يليق بهم. ولا يخفى أن آخرين عبّروا قبلي عن مخاوف مشابهة. ويكفيني ما قاله أخونا عبدالوهاب حسين حين طابَقَ بين نهج المدني والنهج الذي تسير عليه إدارة الوفاق وبعض الوجهاء[2]. بل لقد رأى أداء الشيخ المدني أفضل من أداء بعض قادة الوفاق ورموز الوقت الحاضر. ذلك لأن الخطاب السياسي للمدني كان متطابقاً مع سلوكه. بينما نجد في أداء الوفاق حسب ما قال أخونا عبدالوهاب حسين ”خطاباً ثورياً” من جهة و”مواقف سياسية مسايرة للسلطة” من الجهة الأخرى. وللأسف الشديد لم يفقد هذا التوصيف صلاحيته رغم مرور ثلاثة أعوام عليه.

——————————————————————————————–
انظر: علي الديري، ”الرابطة غير المدنية”، صحيفة الوقت 5 أغسطس/ آب .2007 كذلك انظر ”تقرير عن وقائع جدل الدعوة لسقوط العلمانية- هكذا أسقطت العلمانية”، موقع الفراشة لباسمة القصاب عبر الوصلة:

http://www.bassema.net/?p=52.

 انظر موقع عبدالوهاب حسين ”مجموعة الاسئلة والاجوبة رقم ”28 على الوصلة:

http://www.alostad.net/page/question/index_28.html

______________________________

المقال منشور في الوقت بتاريخ  27/5/2008

http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=7046

لملاحظات القراء  راجع موقع الوقت أعلاه

.