سرديات الغنيمة وربيع البحرين

في 5 حزيران الماضي مَثُل قادة المعارضة، أو ما يعرف بـ “مجموعة الـ 21″، أمام محكمة الاستئناف العليا، بعد عام كامل من إنتهاء حالة الطوارئ التي أعلنها ملك البحرين في 15 آذار /مارس 2011. وكان يمكن لجلسة الإستئناف الأولى أن تكون إعتادية لو إكتفى المتهمون بتفنيد التهم الموجهة إليهم وعرضوا تفاصيل ما تعرضوا له من تعذيب، وطالبوا بمحاسبة المسئولين عن تعذيبهم. ولكنهم  أرادوها فرصة لمحاكمة النظام السياسي نفسه وممارساته التي قادت البلاد إلى  شفا بركان ينتظر الإنفجار. سيتوقف كثيرون أمام المرافعة السياسية التي قدمها الأمين العام لجمعية العمل الديمقراطي (وعد) إبراهيم شريف. ففيها سعى لإبراز مسئولية العائلة الحاكمة في البحرين عن الاحتقان السياسي وغياب المشاركة الشعبية الحقيقية والإزدراء بحقوق الناس  وتفشي الفساد بين النخب السياسية الإجتماعية.  من بين الأمثلة الكثيرة التي سعى إلى توثيقها، استند شريف إلى موروث الفتح وسرديات الغنيمة، لتفسير إستحواذ العائلة الحاكمة على أدوات السلطة ومصادر الثروة في البلاد.

يقل عدد أفراد العائلة الخليفية عن أربعة آلاف شخص، إلا إن حصتهم من الوزارات هي 40 في المئة، بالإضافة إلى رئاسة مجلس الوزراء وإثنين من ثلاثة نواب للرئيس. وتشمل الوزرات المخصصة للعائلة الحاكمة كما عرض شريف  جميع الوزارات السيادية (الخارجية والدفاع والداخلية والمالية والعدل إضافة للمواصلات). وتتكرر هذه الحصة في توزيع المناصب العليا في الداخلية (35 في المئة)، والدفاع (50 في المئة)، والهيئات القضائية (27 في المئة)، وهي الحصة ذاتها التي تأخذها العائلة الخليفية من مجموع المناصب العليا في الشركات الحكومية والمختلطة. أما مجلس الدفاع الأعلى، فللعائلة ثلاث عشرة مقعداً من مقاعده الأربعة عشر.

يسمي دارسو الوضع السياسي الإجتماعي في البحرين وغيرها من بلدان الخليج العربي ذلك بموروث “الفتح”. ولا تتعب السلطة الخليفية في البحرين من تكرار مقولة أن البلاد غنيمة الفتح، وإن شرعية حكمها تستند إلى قيادتها لقبائل قدمت من الجزيرة العربية وتمكنت من فتحها في العام 1783. لقد صبغت سرديات “االغنيمة” العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع، وهي موجودة في تسميات الأماكن العامة وفي النُصُبِ والمجسمات المقامة بهدف تذكير الناس بمن هو الغالب عام 1783، ومن هو المغلوب حتى الآن. فالمسألة بالنسبة للعائلة الحاكمة لا تنحصر في استحضار فتح البحرين كحادثة تاريخية، بل بالتذكير بدورها في شرعنة إعتبار البلاد غنيمة لزعيمة القبائل الفاتحة.

تتشابه البحرين في هذا المجال مع غيرها من بلدان الخليج العربي في أن لأبناء وبنات العوائل الحاكمة امتيازات تفوق ما تحلم به أكثر الفئات حظوة في المجتمع. ولا ينحصر ذلك في المردود المالي لهذه الامتيازات، بل أيضا إلى ما تؤسس له من مصادر قوة سياسية واجتماعية وإلى ما توفره من حصانة قانونية وفوق قانونية.  فبجانب الإستحواذ على المراكز القيادية في إدارات الدولة وأجهزتها، وفرت الموارد المالية الضخمة للعوائل الحاكمة قدرات إضافية مكنتها من  التحكم في المجتمع بل بإعادة تنظيمه بما يتوافق مع رؤية كل عائلة حاكمة لمصالحها.

لعبت االطفرة النفطية منذ 1973 دوراً أساسيا في صياغة هذه العلاقة بين العوائل الحاكمة ورعاياها.  ومعلومٌ  أن سعر برميل النفط  تضاعف  ثلاث مرات  في الأسابيع الأولى بعد حرب أكتوبر في ذلك  العام  ليصل إلى 12 دولار في نهاية ذلك العام.  ثم إستمر الإرتفاع رغم التقلبات الدورية ليستقر في السنوات الأخيرة في محيط المائة دولارللبرميل.  ساهم إزدياد العوائد النفطية منذ  الطفرة على الرغم من تقلبات السوق  في تعزيز سرديات الغنيمة وإنتشارها في دول الخليج العربي كافة.  فتكرست كأساس لعلاقة العوائل الحاكمة بالناس، بغض النظرعن خلفياتهم الطائفية أو القبلية.

وبجانب إرتفاع أسعاره فلقد زاد الإنتاج النفطي لبلدان مجلس التعاون الخليجي  بسسب تحسن تقنيات الإنتاج وبسبب الإكتشاف الجديدة  لتصل قيمة الصادرات النفطية  إلى أكثر من   500  مليار دولار في العام 2011.   و يمكن متابعة كيف تمكنت العوائل الحاكمة، تدريجيا ولكن بثبات، من بناء  دول “يتزامن فيها ما لا يتزامن” حسب تعبير قديم لبسام  طيبي.  ففي البحرين، كما في بقية بلدان مجلس التعاون الخليجي، يتزامن نظام حكم قبلي متشدد في محافظته إجتماعياً وثقافيا وسياسياً مع نظام إقتصادي حديث يمارس دوره بدينامية في النظام الرأسمالي العالمي وهو ما ترمز إليه عضوية الملكة العربية السعودية في ما يُعرف بمجموعة العشرين.  بل ويزداد إندماج دول الخليج في هذا النظام  في مجاليْن هاميْن. الأول يتمثل في أن دول الخليج الستة بجانب كونها مصدر رئيس لللنفط والغاز فإن لديها  مرونة إنتاجية وتصديرية تمكنها من المحافظة على إستقرار أسعار  النفط وإمداداته على  تعويض أي نقص طارئ في سوق النفط والغاز العالمية.   أما الثاني فهو أن هذه الدول هي منطقة إستيراد رئيسة للمعدات العسكرية من البلدان الغربية بما في ذلك أنظمة السلاح المتقدمة.  فالسعودية, مثلاً ,  التي زادت  ميزانيتها العسكرية في العام 2011 على 48 مليار دولار كانت قد أعلنت في نهاية العام الماضي عن توقيع إتفاقية مع الولايات المتحدة الأميركية  لشراء أسلحة ومعدات وخدمات عسكرية بقيمة تزيد على 29 مليار دولار.

 رأينا بعض آثار “تزامن ما لا يتزامن”   في أساليب إعادة  صياغة علاقة العوائل الحاكمة بحلفائها التقليديين من جهة وعلاقتها مع رعاياها. فلم يعد مشايخ القبائل ورجال الدين والوجهاء التقليديين قادرين على منافسة العوائل الحاكمة على أيٍ من مواقعها.  بل أصبح أغلب هؤلاء يعتمدون على رضاالشيخ/الأمير/الملك لضمان إحتفاظهم بمواقعهم.   من جهة ثانية  فقد المواطنون ما كان يميزهم في السابق عن غيرهم من فئات السكان من إمتيازات وحقوق مكتسبة كانت تحددها الأعراف السائدة.  فلقد فقدت تلك أعراف ما قبل الطفرة النفطية دورها الذي كانت تلعبه في تشكيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

عزز إزدياد الريع النفطي قدرات كل عائلة حاكمة على “تدوير” النخب السياسية والإجتماعية والإقتصادية في بلدها، بما في ذلك الوجهاء التقليدييـن والتكنوقراط. وعلى عكس مما يبدو في الظاهر فإن التدوير يشمل جميع فئات المجتمع  بغض النظر عن إنتماءاتها القبلية أو الطائفية.  وبهذه القدرات تبقى أغلب هذه النخب رهائن لمدى رضا العوائل الحاكمة عنها.  ولعل أهم الأدوات المستخدمة في هذا المجال هو إحتكار العوائل الحاكمة لسلطة توزيع موارد البلاد المالية بما فيها مردود الإنتاج النفطي.  فعن هذا الطريق تتمكن العوائل الحاكمة من توزيع المنافع على من تنتقيهم من بين النخب التقليدية بل وإضافة نخب حديثة أو تهميش أخرى.  وتشمل هذه المنافع إختيار من يقوم بتنفيذ المشاريع من مختلف الأحجام التي تمولها الحكومات الخليجية أو تشارك في تمويلها.

يعرف كل وجيه في كل دولة خليجية سواءً أكان سنياً أو شيعياً, قبلياً أو خصيرياً, عربياً أو من أصول غير عربية,  إن رضا العائلة الحاكمة في بلده هو ضمانة إستقرار مركزه المالي وتطوره، وهو مفتاح الدور المتاح له ممارسته في المجال العام، وهو أساس مكانته الإجتماعية.  وتتعدد الأمثلة في كل بلد خليجي على حالات مأساوية لمن أُزيحوا من مراتبهم العليا في الهرم الإجتماعي وفي السوق بسبب عدم مراعاتهم  لهذا القانون غير المكتوب. ولعل في هذا بعض من تفسير إستمرار الدور الهامشي الذي تلعبه هذه الفئات في الشأن العام وتحاشيها ما يقودها إلى مواجهة  تسبب غضب العوائل الحاكمة وحتى عدم رضاها. 

وعن طريق إحتكارها لسلطة توزيع الريع النفطي، تمتلك العوائل الحاكمة قدرة غير محدودة على تعظيم أرباح المشاريع التي يتم التعاقد على تنفيذها.  فكما أوضحت التحقيقات البريطانية في  قضايا الرشوة ضمن إحدى صفقات الأسلحة البريطانية ( صفقة اليمامة) حصل أحد الأمراء السعوديين  على مليار جنيه إستلرليني مقابل دوره في تمرير الصفقة. ومعلومٌ أن تعظيم الأرباح يتم بطرق مختلفة من بينها  تلزيم المشاريع بعقود تفوق كلفتها الحقيقية بكثير. ومنها قبول تنفيذ مشاريع بكفاءة ونوعية أقل مما تم التعاقد عليه. ففي البحرين على سبيل المثال يستعرض تقرير الرقابة المالية في كل سنة أمثلة كثيرة على الهدر الناجم عن الأساليب المعتمدة في تلزيم المشاريع الحكومية.  وفي حين تتم محاسبة بعض صغار المسئولين لا تتتضمن التقارير ما يقوم به أفراد العائلة الحاكمة نفسها.  وهنا تجدر الإشارة إلى  رئيس الوزراء في البحرين وهو عم الملك الذي إشترى  مجمع المرفأ المالي في قلب العاصمة بدينار واحد.  ولقد ساهم كشف هذه  العملية بين المحتشدين في دوار اللؤلؤة إلى تنظيم مسيرات بإتجاه المرفأ المالي  بهدف إالإعتصام فيه مما سبب  مواجهات مع القوى الأمنية وسقوط كثري من الضحايا.  

سواءْ أكان تعظيم الأرباح إفساداً أو فساداً، فإن سلطة العائلة الحاكمة على أجهزة القضاء وتنفيذ القانون تجعلها قادرة على محاسبة أو منع محاسبة المتهمين بالفساد. فكما  لا يمكن لأستاذ جامعي أو مدير إدارة أن يستمر في وظيفته إلا برضا العائلة الحاكمة أو في رعاية أحد أفرادها،  فلا يمكن لفاسدٍ أن يفسد، كثيراً أو قليلاً، إلا بعد  يُنتقى لذلك.

أسهم إزدياد الريع النفطي في تعزيز قدرة كل عائلة حاكمة على إعادة رسـم الخريطة الســياســية/الإجتماعية  بمختلف الطرق،  كما خلق  حقائق ديمغرافية جديدة وملائمة.  ومن بين هذه الطرق سأكتفي بالإشارة إلى ثلاثة. الأول هو  التحكم في توزيع مناطق تشييد المشاريع الإسكانية والمدن الجديدة و التحكم في توزيع المواطنين والوافدين عليها. والثاني هو التحكم في إستيراد العمالة الأجنبية وأعدادها ومصادرها. ولعل أبرز نتائج هذا هو ما أسميه بـ “أجنبة الطبقة العاملة في الخليج”  والمتمثل في تقليص المكون العربي.  ( تشكل العمالة الوافدة من بلدان شبه القارة الهندية وحدها في  العام 2011  55%  من مجموع الأيدي العاملة  في بلدان الخليج).  اما الثالث فهو الدور الذي تؤديه سياسات التجنيس الجماعي (وسحب الجنسية الجماعي) في تحديد الوزن الديمغرافي النسبي لمكونات السكان قبلياً وطائفياً .

وتلعب “المكرمات” دوراً هاماً في تعزيز قدرات العوائل الحاكمة في الخليج على إعادة رسم الخريطة السياسية / الاجتماعية.  والمكـرمـة هي عطية من الشيخ/ الأمير/الملك يمنحها وقتما يريد لمن يريد. هي  حـق مطـلق للأمـير/الملك فان شــاء منح وأن شــاء منع.  ولقد توسع هذا المفهوم في العقود الأخيرة ليشمل حصول المواطن على مسـكن أو عمـل أو تعويض بطـالة أو علاج صـحي أو حتى جواز سـفر.  ولقد رأينا تأثير هذا التوسع في تغييب “حقوق المواطنة وإستحقاقاتها” من الخطاب السياسي المعتمد في مقابل إنتشار المدائح التي تبرز فيها المكرمات التي يتفضل بها حاكمٌ  كريم على رعاياه تقديراً منه لولائهم.  فليس للمواطنين حقوقاً يطالبون بها بل هي إحتياجات يعود قرار توفيرها لتقدير الشيخ/الأمير/الملك.

بطبيعة الحال لا تفسر هذه الترتيبات السياسية/الإجتماعية وحدها  حقيقة أن العوائل الحاكمة في بلدان الخليج العربية تمكنت طوال العقود الماضية من المحافظة على إستقرار حكمها رغم كل ما شهده  محيطها الجغرافي طوال العقود الماضية من ثورات وحروب.  فلقد إستندت فاعلية الترتيبات على ثلاثة  مرتكزات إضافية.  الأول هو ما وفرته عائدات النفط من إمكانيات لبناء أجهزة أمنية وعسكرية حديثة وقادرة على مواجهة كل تحرك داخلي.  والثاني هو دور الحماية المتبادلة الذي توفره  كل من العوائل الحاكمة لمثيلاتها، وهو ما حدث حين تدخلت القوات السعودية   لقمع الإحتجاجات في دوار اللؤلؤة في البحرين. أما الثالث فيتمثل في مظلة الحماية العامة التي تتمتع بها العوائل الحاكمة في الخليج بفضل علاقاتها الإستراتيجية، سياسياً وعسكرياً ونفطياً، مع الولايات المتحدة الأميركية التي تنتشر قواعدها ومنشآتها الأمنية والعسكرية في جميع أراضي بلدان المنطقة ومياهها الإقليمية .  

في  إطار هذه الصورة لم يتوقع أحدٌ أن تكون إحدى بلدان الخليج من بين بلدان “الربيع العربي”. ولهذا كان رد فعل العوائل الحاكمة في المنطقة سريعاً وحاسماً، حين أزهرت أولى أزهار الانتفاضة في البحرين. ولهذا أيضاً سارعت السعودية والإمارات الى التدخل العسكري لإخمادها قبل إنتشارها. ولهذا أيضاً لم تتأخر بقية العوائل الحاكمة عن تقديم أشكال الدعم الأخرى، المالية والسياسية والأمنية، للعائلة الحاكمة في البحرين. فلقد كان المحتجون في دوار الؤلؤة يعلنون أن المنطقة برمتها، وليست البحرين وحدها، على مشارف تغيير تاريخي لتجاوز الترتيبات الأجتماعية/ السياسية التي تكرست طوال العقود الماضية.