مقدمة
بعد دخول القوات السعودية لقمع إنتفاضة 14 فبراير كتبتُ مقالاً توقعتُ فيه أن مؤرخي هذه الحقبة من تاريخنا سيؤرخون إن البحرين فُتحت للمرة الثانية يوم الخامس عشر من مارس 2011. ولا يستطيع البحرينيون , وخاصة ضحايا درع الجزيرة, نسيان كيف أن الجنود على متن الدبابات وحاملات الجنود السعودية كانوا يرفعون أصابعهم بعلامات النصر كأنهم حرروا للتو القدس أو الجزر السعودية التي تحتلها إسرائيل منذ أكثر من أربعين سنة.
كان الفتح الثاني في 15 مارس 2011 يهدف إلى الدفاع عن على جميع موروثات الفتح الأول في 1783. فبرغم كل ما يردده الإعلام الرسمي في البحرين والسعودية فإن التدخل العسكري السعودي جاء سريعاً لمساعدة السلطة الخليفية على إرغام الناس على قبول إستمرارها كسلطة تعتمد شرعيتها على إعتبارها البحرين غنيمة الغزو الذي قامت به قبل ما يقارب 230 سنة. ومعلومٌ أن إستمرار موروثات ذلك الغزو هي ما يضمن أن تبقى السيادة المطلقة للعائلة الخليفية على البحرين أرضاً وبحراً وناساً. ومن لم يقبل فله السيف.
في ذلك المقال وغيره أشرتُ إلى إن الفتح الثاني لن يتمكن من تحقيق هدفه رغم بشاعة ما نتج عنه من مآسٍ وما سببه من ويلات عرف العالم ببعض تفاصيلها عن طريق تقارير هيئات دولية ومحلية كثيرة بما فيها تقرير لجنة البسيوني التي عينها الملك نفسه. وبالفعل لم يتمكن الفتح السعودي من تحقيق هدفه المباشر ولهذا نراه الآن يشجع التحركات التي تعمل تحويل البحرين إلى إمارة سعودية تحت يافطة إتحاد كونفدرالي يحفظ للعائلة الخليفية إمتيازاتها مقابل تنازلها عن السيادة والإستقلال
عوَّلتُ في تفاؤلي على أن البحرين منذ 14 فبراير 2011 قد تغيرت عما كانت قبل ذلك التاريخ. فمن جهة لم تعد قوى المعارضة كما كانت عليه بعد أن عبرت جميع حواجز الخوف وبعد أن خذلت السلطة الخليفية حتى أكثر معارضيها نعومة ومرونة. من الجهة الثانية تغيرت البحرين أيضاً بما شهدناه من تغييرات في قوى الموالاة التي لم تعد كما كانت قبل أن يبدأ حراكها بمسيرة حاشدة تحت راية “الولاء للملك” في 18 فبراير الماضي. ا
سأحاول في الصفحات التالية أن اعرض ما أراه مسببات وتداعيات تلك المسيرة وما تلاها من تجمعات حاشدة أيضاً في ساحة جامع الفاتح مركزاً على ما أسميه بروز الفروق بين خطين. خطٌ يسير فيه موالون للسلطة الخليفية ولكنهم يطالبونها بأن تتعاطى معهم كمواطنين لهم حقوقهم المشروعة. أما الخط الآخر فهو خطٌ المَوالي الذين يطيعون بلا شروط. وبينما يرى المَوالي أن طاعة ولي الأمرمن طاعة الله حتى ولو ضرب ظهورهم وأخذ أموالهم. إلا أن بين المَوالي أيضاً من يعتبر أن في طاعة ولاة الأمر مجلبة للمكرمات كثيرها أوقليلها بل وحتى فُتاتها
مسيرة الولاء للملك والتجمعات التالية لها في ساحة جامع الفاتح
نشرت وكالة أنباء البحرين الرسمية (بنا) في 18 فبراير 2011 أن “اكثر من 100 ألف مواطن في مسيرة حاشدة على الاقدام وبالسيارات دعت إليها جمعيات أهلية بعد صلاة الجمعه من مسجد الفاتح في مملكة البحرين لتجديد البيعة والولاء لجلالة الملك وقيادته الرشيدة حيث عبر المشاركون في المسيرة عن حبهم لقائد مسيرة الخير وارض السلام والمحبة التي يعيشون على ترابها”. ونقلت نشرة الوكالة الرسمية نفسها عن رئيس جمعية العلاقات العامة البحرينية ورئيس اللجنة المنظمة للمسيرة فهد الشهابي قوله في كلمته التي ألقاها في المتظاهرين : “إن شعب البحرين أجمع بجميع طوائفه قبل عقد من الزمان على الوقوف صفّاً واحداً دعماً لمسيرة سيدي صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين”.
وعرفنا مما نشرته الصحف المحلية إن المشاركين في المسيرة رددوا الهتافات المؤيدة للملك وللرئيس الوزراء وولي العهد ورفعوا صورهم وأعلام البحرين. ومن بين ما رُفع من هتافات “الشعب يريد جلالة الملك، الشعب يريد تجديد الولاء، فداك فداك بو سلمان، من الخليج العربي غير خليفة ما نبي، البحرين عربية والقيادة خليفية ، لا سنية ولا شيعية حكومتنا خليفية” )أنظر مقاطع الأفلام على موقع اليوتيوب)ا
تتفاوت التقديرات المتداولة عن المشاركين في مسيرة الولاء للملك التي إنطلقت في 18 فبراير 2011 أو في التجمعات التالية في ساحة جامع الفاتح . وتبالغ بعض تلك التقديرات في تقليل العدد فيحصره في بضعة آلاف. ويبالغ بعضها الأخر في تزييد العدد ليوصله نصف مليون. لا أجد ضرورة للتوقف عند أي من التقديرات المتداولة. بل أرى ضرورة التذكير بأن الأهمية السياسية/االتاريخية لمسيرة الولاء للملك وماتلاها من تجمعات في ساحة جامع الفاتح أو غيرها من التحركات لا تتحدد بعدد المشاركين فيها بل بما ستضيفه أو لا تضيفه إلى الحراك السياسي/الإجتماعي في البلاد وما سيتمخض أو لا يتمخض عنها من تغييرات في العلاقة بين السلطة الخليفية والناس.
نعم كانت مسيرة الولاء للملك وماتلاها نقطة إنعطاف تاريخية من عدة أوجه. فمن جهة لها أهميتها الإعلامية تجاه أطراف خارجية لتبيان إن للملك والعائلة الخليفية أنصارهما بين المواطنين والمقيمين في البلاد. ومن جهة ثانية فإن لها أهمية السياسية الداخلية وخاصة في مواجهة قوى المعارضة و المعتصمين في دوار اللؤلؤة. ومن جهة ثالثة فلمسيرة الولاء للملك أهميتها أيضاً في تمكين الملك وجناحه في عائلته و أنصارهما من إستعادة زمام المبادرة في ساحة الموالاة. وهي ساحة كانت تعج بالتحركات الداعمة لخليفة بن سلمان بما فيها المسيرات المتفرقة التي كان ينظمها جهاز العلاقات العامة لديه ليستقبلها هو كل ليلة عند بوابات أحد قصوره وليسمع المشاركين وهم يرددون هتافات من قبيل “الشعب يريد خليفة بن سلمان” و“بالروح بالدم نفيك يا بوعلي” و”نحن جنودك يابوعلي بأعلى أصواتهم ربما رغبة منهم في أن يصل صداها إلى ساكن قصر الصافرية”.ا
وحتى بدون جهود جهاز العلاقات العامة فلقد كانت كفة خليفة, بالنسبة للمولاة, هي كفة الأمن والأمان التي تخفف من خسائرهم مما إعتبروه “تنازلات” قدمها الملك للمعارضة. ومعلوم إن بعض المتطرفين بينهم سمى الملك “جعفروه” بعد أن إعتذر علناً عن قيام قواته بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في محيط دوار اللؤلؤة مما أدى إبى إستشهاد و إصابة عددٍ منهم.
لا حاجة هنا للتذكير بأن قيادة الساحة السياسية الموالية للسلطة الخليفية كانت قبل 18 فبراير 2011 تنحصر في جمعيتيْن أساسيتيْن هما المنبر الإسلامي والأصالة علاوة على مجموعة معروفة من وجهاء البلاد الذين يزيد عددهم أو يقل حسب التوازنات بين أجنحة العائلة الخليفية وحدة التجاذب بينها. ولقد بدا واضحاً أن هاتين الجمعيتيْن والوجهاء قد أصابهم الشلل والإرتباك منذ بدأت المعارضة حراكها في 14 فبراير. وربما ساهم في ذلك الشلل والإرتباك الرسائل المتناقضة التي كانت تصدر عن كلٍ من الملك و رئيس الوزراء وولي العهد ووزير الداخلية.
وبغض النظر عن أسباب ذلك الشلل فلقد ان واضحاً أيضاً إن التنازع بين الجمعيتيْن وإختلاف مرجعياتهما السياسية والدينية علاوة على التنافس التقليدي بين الوجهاء المعروفين جعلهم جميعاً عاجزين عن التعاون لتأطير جمهور الموالاة في حركة سياسية تستطيع دعم السلطة الخليفية عبر النزول إلى الشارع لمواجهة قوى المعارضة والمعتصمين في دوار اللؤلؤة
ظهور النذير العرُيان
لم يتوقع أحدٌ أن تتسارع الأحداث بالشكل الذي تسارعت فيه لتجعل الشيخ المحمود أبرز الأسماء المتاحة, وأقلها كلفة سياسية من وجهة نظر السلطة الخليفية. فلا عزوة له قبلية كانت أو أو عائلية أو حزبية. ولهذا لم يكن مستغرباً أن يتقدم الشيخ المحمود متخطياً كل الآخرين من نواب و رؤساء جمعيات سياسية وإجتماعية ليتصدر واجهة العمل السياسي الموالي للسلطة بعد 21 فبراير 2011
أقول لم يكن مستغرباً إختيار الشيخ المحمود لهذه المهمة بقدر ما كان مستغرباً قبوله بها. فلا يخفى أن الشيخ المحمود آثر بسبب ما عاناه بعد تعزيره المؤلم في 1992 آن يسير في طريق السلامة فحصر مشاركته في المجال العام فيما يتولاه من مهام كرجل دين وكأستاذ في جامعة البحرين وكوجيه محترم من وجهاء البلاد وفيما يعهده إليه ولاة الأمر من مهمات وزيارات وجاهة.
بطبيعة الحال تباينت الآراء بعد الإعلان عن الدور الجديد المُناط بالشيخ كرئيسٍ وكواجهة لحراك المحتشدين في ساحة جامع الفاتح. أشار المتفائلون , وأنا منهم, بتولي الشيخ االمحمود إلى وسطيته الدينية وإلى مواقفه السياسية السابقة التي كانت تتساوق مع ما تطالب به المعارضة الوطنية. وفي هذا الصدد لابد من الإشارة بالذات إلى ما جاء في ورقته المكتوبة التي قدمها قبل عشرين سنة في ندوة عُقدت في الكويت وتعرض بعدها إلى التوقيف والمساءلة في البحرين. ففي تلك الورقة لاحظ َ الشيخ المحمود أن من بين حكام الخليج “من يرى أن دخل الدولة مُلك له يتصرف فيه كما يشاء، ويرى أن ما يصل إلى الناس إنما هي نعمة من أنعامه، وتفضل عليه وتكرم منه”. وأضاف مشيراً إلى “الخلط بين الحاكم وعائلة الحاكم، وعدم وجود ضوابط لهذا التداخل، حتى أصبح أبناء وبنات عشيرة الحاكم حُكاما، وظيفتهم الرسمية أنهم من العائلة الحاكمة مهما بعُد النسب، يأخذون على هذه الوظيفة رواتب من خزانة الدولة دون أي عمل سوى الولاء للحاكم، مما أدى مع ازدياد عددهم من العشرات إلى االمئات والألوف…”ا
أقول كان الإستبشار بمجئ الشيخ المحمود على رأس تيار الموالاة مربوطاً بظنونٍ تقول أنه ربما إستذكر بعض ما قال في الكويت قبل عشرين سنة وخاصة أن فيه الكثير مما تطرحه المعارضة الوطنية في برامجها منذ هيئة الإتحاد الوطني في 1954 وحتى الإئتلافات التي قادت الحراك في دوار اللؤلؤة.
أما المتوجسون من المجئ بالمحمود في هذا الدور فكانوا يشيرون إلى ما هو معروف عنه من تقلب متكرر وسريع أحياناً في المواقف. علاوة على ذلك فإن من الثابت أن الشيخ المحمود بعد تعزير النظام له لم يكررموقفه القديم الذي أعلنه في ندوة الكويت. وحتى مساهمته في بداية الحركة الدستورية في 1992 توقفت بعد أن تبين له أن السلطة لم تكن في وارد التسامح مع تلك الحركة.
وبطبيعة لا يفوت المتوجسون الإشارة إلى أن تكليف الشيخ المحمود بهذه المهمة السياسية هي إحدى التوصيات البارزة التي أشار بها واضعوا المخطط التدميري الذي فضحه تقرير الدكتور صلاح البندر. من جهة أخرى يشير العارفون إلى أن طيية الشيخ ومزاجيته كثيراً ما تدفعانه إلى إتخاذ مواقف عن غير قناعة بل لإرضاء هذا الطرف أو ذك ولكنه سرعان ما يتراجع عنها. ومن أمثلة ذلك إعلان الشيخ المحمود عن مشاركته في “حملة الامام الحسين للتبرع بالدم” التي بادر بها صندوق النعيم الخيري قبل عشر سنوات بالتعاون مع وزارة الصحة. ولكن الشيخ تراجع عن تلك المشاركة بعد أن عاب السلفيون عليه ذلك.
خلال ثلاثة أيام تغير الحال. ففي 21 فبراير 2011 صار حال الشيخ المحمود مثل عصا موسى فلم يعد محترفوا العمل السياسي من بين قادة جمعتيْ المنبر والأصالة ولا الوجهاء الآخرون شيئاً في مقابل الشيخ المحمود الذي سُخِّرت له جميع الأدوات الإعلامية الرسمية لتثبيت تنصيبه واجهة لكل التيار الموالي . وبهذ التنصيب أملت السلطة الخليفية أن تتحاشى تداعيات التنافس بل والتناكف بين المنبر الإسلامي و المنبر من جهة. وأن تتحاشى الأكلاف السياسية المتوقعة من الإعتماد على هاتيْن الجمعيتيْن أوإحداهما.
لقد كان من المتوقع على ما يبدو أن يتحول تجمع ساحة جامع الفاتح بقيادة الشيخ المحمود إلى”البيت العود” الذي يجمع جمهور الموالاة ووجهائها وجمعياتها. إلا أن الشيخ لسوء حظه وحظنا وكما رأيناه طوال السنة الماضية لم يتمكن من القيام بهذا الدور. فلم تكن خبرته الإدارية ولا ملكاته الإعلامية ولا قدراته في مجاليْ المحاورة والمناورة في المستوى اللازم لمن يتصدى للدور القيادي التوحيدي الذي أُنيط به.
ولعل فيما سبق ما يفسر كثرة الأسئلة التي تحتاج إلى جهد كبير للإجابة عليها من قبيل: لماذا لمْ ينتظر الشيخ كثيراً قبل أن يُقصي أو يُهَّمش منافسيه على القيادة من قادة المنبر الإسلامي الأصالة ووجهاء الطائفة السنية الآخرين؟ ولماذا وجد الشيخ المحمود ضرورة في إقصاء أو تهميش كوادر معروفة من ذوي الخبرة يحتاجها أي تنظيم وليد؟ ولماذا إستعاض عن تلك القيادات وتلك الكوادر ذات الخبرة بأن أحاط نفسه بفريق أغلبه من الصف الثاني والثالث أو من سقط متاع جمعيات أخرى؟ علاوة بطبيعة الحال على لماذا إختار الشيخ أن يسقط مبكراً أمام إغراء الدخول في مناكفات إعلامية في تفاصيل التفاصيل ضد المعارضة بدلاً من تركيز الجهود على تثبيت دعائم الحركة الشعبية الجديدة التي وجد نفسه على رأسها؟
يردد بعض مبغضي الشيخ المحمود وكذلك بعض محبيه أنه “معاوية البحرين”. وأجد أن الوصفَ, مدحاً أو ذماً, يظلم الرجليْن. فما نعرفه مما يُروى عن معاوية إنه كان داهية وبعيد النظر وكان سيِّد نفسه في جاهليته وفي إسلامه. أما الشيخ المحمود ,و كما أشرتُ من قبل, فمعروفٌ عنه طيبته التي رأيناها تجعله يصدق كل ما يقوله له ولاة الأمر حتى وإن كان كذباً صُراحاً.
أقولُ رغم قلة خبرته السياسية وخاصة في تلك المجالات التي يتطلبها تأسيس وقيادة حركة جماهيرية فلم يحتج الشيخ المحمود إلى وقت طويل ليتأقلم مع مظاهر دوره الجديد و لينشغل بالبروز الإعلامي والوجاهي. ولعل لشيخ تذّكر يومها ماجاء في حديث نبوي عن النذير العُريان الذي رأى الأخطار بعينه فصاح في قومه النجا النجا. ولعله قال ما أعظم المهمة وما أعظم الثواب.
إلا إن الشيخ المحمود لم يقم بكل ما تتطلبه منه مهمة النذير العُريان بل قاده طموحه وربما قلة خبرته السياسية إلى أن يتسرع فتتطَّلعَ إلى ما هو أكثر. فرأيناه كمن “إخترع” بمنصبه الجديد فذهب بعيدأً بعيداً. بل صار يجّدف فيما تعتبره العائلة الخليفية مقدساتها وخصوصياتها. فراح يطالب بتنحي خليفة بن سلمان منذراً إن لم يتنحَ هذا فإن البلاد ستكون على أبواب أزمة جديدة. نسى الشيخ المحمود إن ما جاء به إلى الواجهة هي إرادة الملك وبرضا خليفة نفسه فصار يتصرف كأنما هو من فرض نفسه على السلطة الخليفية أو أنه جاء بمعجزة ربانية.
أسارع للقول بأنني أجد الشيخ معذوراً حين دفعه طموحه إلى محاولة أن يمارس دوراً سياسيا تتخطى الحدود التي رُسمت له في 21 فبراير 2011. فهو يستطيع على أية حال أن يدافع عن نفسه بالإشارة إلى أن خطابه الإعلامي جاء متساوقاً تماماً مع ما يردده كبار العائلةالخليفية نفسها كما سأفصِّل فيما بعد. فالملك نفسه يكرر الحديث عن محاولة إنقلاب تم إفشالها. وهو إنقلاب جرى التخطيط له حسب الملك “لمدة لا تقل عن عشرين أو ثلاثين سنه” . فمن يلوم الشيخ المحمود حين يصدق كل ذلك ويرى نفسه بطلاً جاء ضمن معجزة ربانية لينقذ النظام ويحميه من السقوط حتى تأتي القوات السعودية لتتولى بقية المهمة؟
لا يكفي ما لديّ من معلومات للتثبت من مدى “إختراع” الشيخ ولا مما يقال عن أن إزدياد المساحة التي أراد الشيخ الإستحواذ عليها في الساحة السياسية كانت عاملاً مهماً في تسريع الإجهاز على دوره كواجهة لحراك من إحتشدوا في ساحة جامع الفاتح. ماهو مؤكد عندي إن مساعي الشيخ لأن يكون وحده زعيم الساحة السنية بمجملها جعلته في مواجهة مباشرة مع أطراف كثيرة أخرى إعتبرته قد إغتصب دوراً هي أحق به, ناهيك عن إمتعاضها منه وهي تراه يتخطى حدوده المرسومة.
نعم حاول الشيخ أن يرد على حاسديه ومنتقديه. إلا ردوده زادت من صعوبة موقفه. وفي هذا الصدد أشير إلى حديث نشرته جريدة الأيام مؤخراً للشيخ المحمود يؤكد فيه أنه لا يقبل أن يقوده الشارع. بل أنه هو من يقود الشارع. ولهذا فلا نية لديه بأن يترك زمام القيادة للشارع حتى لا تتحكم مجموعات لتسقط من تشاء ولتعين من تشاء. وإستمر الشيخ في الحديث نفسه ليتهم “ فئات رسمية من النظام تعمل على تأجيج وسلب الشعبية من التجمع والضرب في رئيسه”. وقال “إن هذه الجهات ترى أن يكون تجمع فزعة وإذا أدى دوره يقال له ارجع إلى بيتك”.
على الرغم من نبرة التحدي في حديثة الأخير إلا أنها لا تخفي ما يشعر الشيخ به من مرارة. فالشيخ يعرف الآن أن السلطة الخليفية التي أتت به إلى الواجهة تستطيع أن تأتي بغيره. فالوجهاء المؤهلين لديها, كما يقول أهلنا, المنّ ببيزة.
بغض النظر عن الأسباب “التآمرية” إلتي يشير إليها الشيخ فإن نجاحها كان مضموناً بسبب فشل الشيخ في القيام بدور المنذر العُريان وبسبب تفضيله البروز الإعلامي والوجاهي وبسبب إضاعة جهوده في مماحكات تفصيلية مع المعارضة علاوة على داهية الدواهي بالنسبة للعائلة أي تدخله غير المفهوم في التجاذب المستمر بين الملك وعمه. (ألم يسمع الشيخ قولةَ مَن قال “مالنا والدخول بين السلاطين”؟).
وبسبب فشله فإن الناس الذين آملوا أن يحقق الشيخ المحمود لهم شيئاً مما عدَّده في قائمة “لنا مطالب” سيبقون ينتظرون. فأولئك الناس لم يكونوا غنماً تُساق كيفما شاء الراعي. فحين إحتشدوا في مسيرة الولاء للملك وما تلاها من تجمعات في ساحة الفاتح ووقفوا في كل مرة يُعزف فيه السلام الملكي كانوا في حقيقة الأمر إنعكاس مرآةٍ لمواطنيهم في دوار اللؤلؤة. بل ربما كانوا في الواقع أكثر قرباً إليهم مما قيل عنهم. فعلى الرغم من إختلاف الخطاب السياسي الي كانوا يسمعه الناس في دوار اللؤلؤة وفي ساحة جامع الفاتح إلا أنهم جميعاً “طلاب حقوق” كما وصفهم الشيخ المحمود. وفي مقدمة الحقوق التي عدّدها الشخ أمام المحتشدين في ساحة جامع الفاتح صفقوا له إعجاباً و تأكيداً “أن تكون السلطات للشعب بشكل فعلي وليس بشكل صوري” وأن تُزال “جميع مظاهر التمييز العرقي والفئوي والعائلي” وأن “توكل المهمات لذوي الكفاءة والأمانة والأيادي البيضاء حتى نستطيع ان نحافظ على ثروات هذا الوطن وشعبه وأجياله القادمة”.
أقول لسوء حظ البحرين سيبقى أغلب من صدّق الشيخ في إنتظار من يقودهم إلى تحقيق مطالبهم في العيش بكرامة وبلا خوف في دولة تكون السلطات جميعاً فيها للشعب. دولةٌ ولا يسود فيها موروث الغزو بعد أن تزال جميع مظاهر التمييز العرقي والفئوي والقبلي. أما من ظنوا في الشيخ خيراً وآملوا فيه, مثلي, فهؤلاء سيبقون في إنتظار نذير عُريان آخر.
أما الشيخ المحمود نفسه فقد لا تنتهي سيرته في خدمة السلطة الخليفية عند هذ الحد. إلا أن ما حدث له مؤخراً على أيدي “شباب الصحوة” يؤكد ما يكرره العارفون: لا تدوم الوجاهة لأحدٍ في البحرين إلا بدوام رضا السلطة الخليفية عليه. ومعلومٌ أيضاً إن السلطة الخليفية لا تقبل أن يتصور وجيهٌ من الوجهاء مهما علا مقامه أو عظمت خدماته لها إنه قوي بذاته أو أن يتصور إنها لن تستغني عنه أو إنها ستعجز عن تحجيمه أو حتى إقصائه.
ولهذا رأينا الكثيرين قد إنفضوا من حول الشيخ و صاروا يسمعون بإعجاب اصواتاً كثيرة تنافسه. ومن بين هذه صوت الشيخ عادل حسن الحمد الذي يتناول في خطبه اموراً تناساها الشيخ المحمود حين إنشغل بعرض الخرائط الإقليمية ويشرح لعبة الأمم و”المؤامرت الأميركية الصهيوصفوية ” في الفضائيات والمنتديات الدولية. وأُشير في هذا الصدد إلى إحدى خطب خطيب جامع النصف بالرفاع (22 يوليو 2011) لتي حذر فيها من “أثر المنافقين السنة في تخريب الاوضاع اكثر فأكثر”. وكذلك تذكيره المصلين خلفه بأن “الدولة” قد “خدعت أهل السنة الذين ناصروها أيام الأحداث و لكنها تخلت عنهم حين ركعت لأمريكا في سبيل تثبيت الكراسي” على حد قوله. وهنا يعيد الشيخ الحمد تذكير سامعيه بأن أصوات أهل السنة تعلو في عدة ميادين رفضاً لتصرفات الدولة وتعاملها مع تبعات الأحداث . بل أنه يرى أن للدولة دوراً في إستفزاز أهل السنة ونشر التطرف بينهم ويقول لها محذراً أن السنة إذا ثاروا سيدمرون الأرض ومن عليها”.
هل كانت تجمعات ساحة جامع الفاتح مجرد فزعة؟
إحتاج منظمو تجمعات الفاتح إلى ما هو أكثر من الفزعة وإلى أكثر من تخويف الجمهور بالتغييرات التي ستفرضها المعارضة على السلطة. فلم يكن مجدياً وقتها التعويل على تخويف فقراء الناس في الحد أو قلالي بـ “الغول الشيعي” المتربص بهم في المالكية وصَدَد. لهذا إحتاج منظمو تجمع الوحدة إلى رفع رايات لم تُرفع من قبل ولم يتعود جمهور الموالاة على السير خلفها بتلك الأعداد التي رأيناها.
إحتشدت الناس في 21 فبراير وفي 2 مارس 2011 في ساحة جامع الفاتح و رُفعت صور الملك وولي العهد وخليفة بن سلمان كما رُفعت لافتات أخرى تندد بالمعارضة وتتهدد المعتصمين في دوار اللؤلوة. إلا أن تلك التفاصيل وغيرها على أهميتها لكثيرين ليست في أهمية الشعار المركزي الذي إحتشدت الناس حوله في ذلك اليوم: “لنا مطالب”.ا
لم يكن في الأمر ما هو يستحق الإستغراب لو كان المشاركون في مسيرة الولاء للملك والمحتشدون في تجمعات ساحة جامع الفاتح قد إحتشدوا فقط للدفاع عن ولاة الأمر في ضد هجوم “الطرف الآخر”. فالفزعةُ جزءٌ ثابتٌ ومستقرٌ من موروث الفتح التي تغذيه السلطة بمكرماتها الدورية. بل إن البحرين شهدت طوال الأسبوعين السابقيْن لتجمع “لنا مطالب” أمثلة كثيرة على تراث الفزعة بما فيها وفود العوائل التي تسابقت للوصول إلى قصر خليفة بن سلمان حسبما تقتضي أعرافٌ وتقاليد تربت عليها . ولقد بث التلفزيون الرسمي مشاهد مطولة لمواطنيين وهم يرددون “خليفة خطٌ أحمر” حتى قبل أن يُعرف عن إستعداد الملك لقبول نصيحة مزدوجة أميركية وقطرية بإحالة عمه إلى التقاعد.
أقولُ نعم كان التجمع في ساحة الفاتح في 21 فبراير وفي 2 مارس 2011 فزعة من جملة فزعات أخرى مثلها في أثناء كل هبة و إنتفاضة في تاريخنا الحديث. إلا أن الجديد في فزعة ساحة الفاتح هو أمران غير مسبوقيْن في تاريخ علاقة العائلة الخليفية بالموالين لها. الأمر الأول هو إنها جاءت مربوطة بشروط تمثلت في سلسلة المطالب التي أعلنها الشيخ عبداللطيف المحمود وحظت بإستحسان الجمهو المحتشد. أما الأمرالثاني فهو إن تلك الفزعة كانت تعلن أيضاً أن جمهور الموالاة لم يعد يكتفي حسب تعبير الأستاذة سوسن الشاعر, بأن يتولى “ولاة الأمور” نيابة عنه بمناكفة المعارضة. بل صار يطمح في أن يكون طرفاً فاعلاً بالقرب من العائلة الخليفية ولكن ليس في كنفها. ولعل في هذه ما أراه يشير إلى بداية الفصال بين المُوالين للسلطة وبين مَواليها
لقد كانت ملفتة للنظر حقاً تلك اللافتات المرفوعة في ساحة جامع الفاتح وهي تعلن “لنا مطالب”. كما كان مهماً قيام الخطباء بتكرارها الواحد تلو الآخر. نعم لقد شملت المطالب بقاء نظام الحكم والعائلة الخليفية والتمسك بخليفة بن سلمان رئيساً للوزراء, وتأكيد عدم الرضوخ لمطالبة المعارضة بإقالة الحكومة الحالية. كما سمع الجمهور قادته يعلنون مطالباً عمومية ومطاطة تضمنت أيضاً “تثبيت دولة الحقوق والواجبات للجميع” و تحسين ظروف المعيشة عن طريق “تفعيل القوانين والأنظمة التي تمنح قطاعات الشعب حقها كاملاً” علاوة على “نريد من القيادة ان يتم حل المشاكل المعيشية للمواطنين من رواتب وإسكان في المدى القريب، ونريد من القيادة ان تسارع في القضاء على انتشار المسكرات والدعارة”.
إلا أن الجمهور سمع أيضاً قائد التجمع وهو في قمة حماسه يخاطب الملك علناً وليس مناصحة وبصوتٍ خافت في غرفة مغلقة لتذكيره بأن “جميع أبناء البحرين طلاب حقوق، وفي مقدمتها ان تكون السلطات للشعب بشكل فعلي وليس بشكل صوري فلا يكفي ان يقرر الدستور حقوقا وتعطل عن التنفيذ أو يُتحايل عليها” بل وسمعوه يطالب برفع “جميع مظاهر التمييز العرقي والفئوي والعائلي” وان “توكل المهمات لذوي الكفاءة والأمانة والأيادي البيضاء حتى نستطيع ان نحافظ على ثروات هذا الوطن وشعبه وأجياله القادمة، فكم من ثروات قد نهبت وكم من أموال دخلت في الجيوب الخاصة، وكم من مشاريع ارتفعت كلفتها ومشاريع توقفت”.ا
تزاحم الموالين مع الموالي
تدريجيا وطوال الأشهر التالية لإعلان تجمع الفاتح ستبرز نبرة جديدة في الخطاب السياسي المتداول في ساحة الموالاة كما ستبرز ممارسات تناقض ما تعودت السلطة/العائلة الخليفية عليها. لقد صارممكناً ومقبولاً ان لا يردد جميع الناس في المناطق السنية “ربنا لا تغير علينا”, بالظبط كما صار مقبولاً و منذ سنوات أن لا يردد جميع الناس في المناطق الشيعية “معكم معكم يا علماء”.ا
ولقد رأينا كيف إرتفعت حدة أصوات بعض قادة تجمع الفاتح وهي تنتقد “الدولة”. بل وصل بعضهم إلى حدود فاقت ما يتجرأ عليه كثيرون من عتاة المعارضة. وسأعطي مثاليْن مما تعج بهما مواقع الإتصال الأجتماعي. فهذا يخاطب “الدولة/الملك” معنفاً “إما إنك على قدرمسئولية الحكم ودولة القانون أو كفاك عبثاً بالسلم اأهلي ومستقبل الأجيال القادمة.”ا
(AAAGulf@#Bahrain)
وآخر يتساءل متوعداً “ماذا بقي من هيبة الملك والدولة والداخلية والقانون أمام التنازلات والعفو عن الخونة..لن ينفع إلا قبضة المشير الوحيد اللي قدر عليهم”.ا
@boammar#bahrain
ولايفوتنا هنا الإشارة إلى مقابلة الشيخ المحمود نفسه مع الواشنطن تايمز ( 18 أغسطس 2011) التي كرر فيها أربع مرت المطالبة بتنحية خليفة بن سلمان. وأشار فيها إلى إنه, أي خليفة, سيكون غبياً إذا لم يتنحَ “ستدخل البحرين في أزمة جديدة”. ولم تتأخر ردود الفعل على طلب التنحي هذا . ومن بين ردود الفعل تلك قيام النائب عادل المعاودة, والقيادي في جمعية الأصالة, بمطالبة المعنيين بإعفاء عبد اللطيف المحمود من رئاسة تجمع الوحدة الوطنية. بل ولم يكتفِ النقيادي في جمعية الأصالة بهذا بل غمز من قناة الشيخ المحمود مشيراً إلى أنه كان يوم من الأيام مع المعارضة.” ومن يعلم قد يكون شيعي ويمارس التقية ليخدعنا “…أ
أحسنت أستاذ عبدالهادي، ابتلى الله آل خليفة في كل جيل بعدالهادي
شكرا على المقال الرائع، ولكن اعذرني، هل نحن كفار كي يفتح آل خليفة بلادنا؟
يسقط حمد
I DEMAND YOU RETURN TO TWITTER PLEASE, WE NEED YOU ON TWITTER
Nice article by the way
مقال متميز يا دكتور .. افتقدناك في مواقع التواصل الاجتماعي ونتمنى عودتك القريبة
شكر بن خلف على هذا التحليل الجهنمي حسب تعبرنا نحن البحارنة.وضعت المحمود في موقعه الذي يليق به
مقال رائع
بأختصار العائله الحاكمه أبتلت بموالين بعدما كانت مبتليه بالمعارضين
واما الموالي فهم فزاعه “لاتهش ولاتنش ” …. شكرا لكم
شاهد يا دكتور تجمع للطبالة عبارة عن لقاء مع السعيدي مع جمهوره أسألة وأجوبة قد يفيدك هذا الفيديو في بحوثك
As usual, superb article.
I’ve a request, though. Your articles are too long. Majority of readers either don’t finish the reading or feel it’s too lengthy to start with.
If you can split into two or more, have one published every other day, it’ll be great.
It’s psyological. And time-restrained. No more no less.
THANK U!!!