تحتاج ملاحظاتي في مقالي السابق عن «الإفراط في السلطة» إلى ربطها ببعض ما جاء في كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذي نشره الشيخ عبدالرحمن الكواكبي باسم مستعار قبل أكثر من مئة سنة. والكتابُ هو واحدٌ من جملة الجهود التي بذلها مفكرو النهضة العرب في سبيل استنهاض شعوب بلدانهم لإزاحة النير العثماني من جهة ولمقاومة الاستعمار الغربي المستشري من الجهة الأخرى.
لم ترتفع تلك الكتابات النهضوية العربية إلى ما وصلت إليه كتابات معاصرة لها أو سابقة عليها في بلدان غربية وشرقية أخرى. لا جدوى تُرجى من مقارنة «طبائع الاستبداد» بتلك الكتابات التي صيغت في إطار تغيرات جذرية شاملة اقتصادية وعلمية واجتماعية ودينية أفرزت مشروع الحداثة الأوروبي وكانت جزءاً منه. وللسبب نفسه لا جدوى تُرجى من مقارنة ما طرحه الكواكبي بما جاء به «ديلا بويسي» قبله بثلاثة قرون في كتاب «خطاب حول العبودية الطوعية» الذي تعرضتُ إليه في هذه الصفحة قبل سنة. فالكواكبي رغماً عن تلك الفوارق البيِّنة يستحق مكانته المتميزة في تاريخ مشروع الحداثة العربي. وهو بالتأكيد يستحق اهتماماً أكبر مما يلقاه الآن من قبل القائمين على مؤسسات التعليم في بلداننا.
يسعى الكواكبي إلى الإجابة على سؤالٍ مزدوج: ما سبب الانحطاط وما هو دواؤه؟ ويعكس عنوان كتابه رغبةً في التوفيق بين جُهديْن، فكري وسياسي. فمن جهة ناقش «طبائع الاستبداد» عبر تفكيك المفهوم بالاعتماد على ما لديه بخلقه أدوات تحليل وتنظير. ومن جهة ثانية سعى عبر «مصارع الاستعباد» إلى تحديد ما سماه «طرائق التخلص من الاستبداد». ومع أن مناهج البحث الحديثة أكثر تعقيداً وتداخلاً مما توافر للكواكبي، إلا أننا لا نستطيع التقليل من قيمة الأسئلة المنهجية التي طرحها. فهو لم يكتفِ بطرح الأسئلة المعتادة بشأن تعريف الاستبداد وسببه وأعراضه ومساره. بل دخل في مباحث ماتزال ماثلة حتى اليوم
سأكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها: كيف يؤثر الاستبداد على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية بما فيه الدين والعلم والعمران لماذا يكون المستبد رغم جبروته شديد الخوف؟ ولماذا، بالمقابل، يستولي الخوف على الرعية؟ ويبدو الكواكبي ابناً للقرن الواحد والعشرين حين تتداخل إجابتاْه على السؤاليْن الأخيريْن فيقول إن «خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهلْ. خوفُه عن عجزٍ حقيقي وخوفهم عن توهم التخاذل فيهم[1]».
يبدأ الكواكبي إجابته على سؤاله عن سبب الانحطاط بانتقاد آراء منتشرة بين العامة. فالقائل إن «أصل الداء التهاون في الدين لا يلبث أن يقف حائراً عندما يسأل نفسه: لماذا تهاوَن الناس في الدين؟ والقائل إن الداء هو اختلاف الآراء يقف مبهوتاً عند تعليل أسباب الاختلاف. فإن قال سببه الجهل، يُشْكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشد. وهكذا في حلقة مفرغة لا مبدأ لها، فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترثٍ بمنازعة عقله ودينه له بأن الله حكيم عادل رحيم». ويلخص الكواكبي التعريف «تحكم أصل الداء هو الاستبداد الذي يستند عليه كل فساد في الدين والعلم والعمران». يشير الكواكبي إلى أن «الاستبداد، لغةً، هو غرور المرء برأيه والأَنَفَة عن قبول النصيحة».
ولهذا يدخل في التعريف «تحكم الأب والأستاذ والزوج ورؤساء بعض الأديان وبعض الطبقات». إلا أن مُراد بحثه هو «استبداد الحكومات» بمعنى أن الاستبداد «هو صفة للحكومة المطلقة العنان، فعلاً أو حكماً، التي تتصرف في الرعية كما تشاء بلا خشية حساب أو عقابٍ محققيْن».
يكرر الكواكبي بعض ما طرحه من سبقه من المفكرين الإصلاحيين والثوريين.
وبالمثل يكرر مفكرون إصلاحيون وثوريون في جيلنا بعض ما قصده الكواكبي. ومن جملته أن الاستبداد فعلٌ إنساني كما أن الاستعباد فعلٌ إنساني. وككل الأفعال الإنسانية فهي خاضعة للإرادة. وهذا يعني أن مواجهة الاستبداد والتخلص من الاستعباد هما أمران في أيدي الناس إنْ وَعَوا وإنْ أرادوا. ففي ذلك الوعي وتلك الإرادة تكمن الحرية كما تكمن العبودية. إلا أن للوعي كُلفةً وللإرادة ثمناً.
ونراه يقارب هذه المقولة في شرحه لما جاء في الأثر: «من أعان ظالماً على ظُلمه سَلَّطه الله عليه». ويشير إلى أن إعانة الظالم على الظلم تبتدئ بمجرد الإقامة في أرضه. أسارع للتنبيه إلى أن الكواكبي كتب ذلك في بداية القرن الماضي، أي حين لم تكن الدول العربية قد قامت ولم ترسَّم بعدُ حدودها.
يرى الكواكبي أن للاستبداد أعواناً لا يمكنه أن يستمر من دونهم. ولكل فئة من الأعوان دورها المعلوم زماناً وظرفاً. ومن بين هؤلاء الأعوان رجالُ دينٍ ممن اتخذوا الدين «وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شِيَعاً وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية فضيَّعوا مزاياه وحيَّروا أهله بالتفريع والتوسيع والتشديد والتشويش». وإلى جانب دور رجال الدين من أمثال هؤلاء يحتاج الاستبداد إلى من سماهم الكواكبي «العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسَهم بمحفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة».
ورغم قسوته الظاهرة على الفئتيْن السابقتيْن، إلا أنه احتفظ بأقسى الأوصاف لفئة «المتمجدين». وهي فئة من الناس يحرص المستبدُ على «إيجادهم والإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها». يتخذ المستبدون من المتمجدين «سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال». يشدد على أن المتمجدين فئة واسعة وتزداد اتساعاً كلما اشتد الاستبداد.
وبطبيعة الحال فلا حدود لازدراء الكواكبي بالمتمجدين الذين يعتبرهم «مستبدين صغاراً في كنف المستبد الأعظم» يضربون بسيفه وينفقون من ذهبه. إلا أن الكواكبي لا يستصغر شأنهم. بل نراه يشير إلى دوريْن متداخليْن يقوم المتمجدون بهما في الوقت نفسه. فمن جهة هم من لوازم الاستبداد اللازمة. فمن دونهم لا حول للمستبد ولا قوة. ومن الجهة الأخرى هم مثل بقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون إلا برضا المستبد وفي ظل حمايته وبفضل عطاياه.
————
[1] عبدالرحمن الكواكبي، «طبائع الاستبداد ومصرع الاستعباد»، بيروت، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 6002. جميع الاقتباسات اللاحقة من الكتاب.
.رابط المقال : http://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=10493
.
ز