ألمواطنة الدستورية (مقالٌ قديم 2008)ا

تقارن بعض الدراسات المعنية بنظم الحكم بين سهولة إقامة نظام سياسي وإدامته وبين صعوبة بناء دولة. فالنظام السياسي سواءً كان ظالماً أو عادلاً، غنياً أو فقيراً، متسامحاً أو متشدداً فإنه يستطيع استخدام أدوات الحكم المتاحة له للبقاء أطول فترة ممكنة. ولا تنحصر هذه الأدوات في العددِ والعتاد والمال والقدرة على كسب المناصرين في الداخل والخارج بل وتشمل القدرة على إضعاف الأطراف المعارضة بقمعها أو تشطيرها أو باستلحاقها.   فهذه الأدوات توفر لسَدنة النظام إمكانية الحفاظ على الإستقرار لفترات طويلة. إلا إن النظام مهما كان متجبراً أو غنياً أو كريما ومهما كانت درجة ضعف معارضيه لن يتمكن من بناء دولة ووطن بدون الشرعية التي تمحضها له الناس طوعاً لا جبراً.

انطلق مؤسسو هيئة الاتحاد الوطني في خمسينيات القرن الماضي من الاقتناعٍ بأن الأوطان إنما تُشاد على الشراكة الطوعية وليس على الجبْر بالقمع أو العطايا. وأصبح هذا الاقتناع قاعدة الخطاب السياسي الذي اعتمدته أغلب المعارضة طوال العقود التي تلت قمع الهيئة بنفي قادتها وسجنهم وتشريدهم واستلحاق بعضهم. لم يكن قادة الهيئة خبراء في الهندسة الاجتماعية لكنهم حاولوا كما حاول من تلاهم أن يروِّجوا لمشروعٍ اعتبروه طريق البلاد للخلاص مما هي فيه. وهو مشروعٌ يبدأ بالتراضي على بناء وطن يتشارك في امتلاكه وفي حبه جميع مواطنيه ومواطناته. والشراكة المقصودة ليست شراكة بين المتنفذين في التعاضديات التقليدية ولا بين رموز طائفتيْن أو وجهاء مناطق سكنية بل شراكة بين أفراد أحرار يتوافقون على إرادة العيش المشترك كمواطنين متساوين.

أقول لم يكن قادة الهيئة ولا من خطا على خطاهم خبراء في الهندسة الاجتماعية، إلا أن الفكرة التي انطلقوا منها تتلخص في تأكيدهم بأن المشكلة التي تعاني منها البلاد ليست بين شيعة وسُّنّة. بل هي تكمن في الاستراتيجية التي تنطلق من اعتبار الناسَ رعية والبلادَ مزرعة. ولهذا استمرت الحركة الوطنية طوال العقود الماضية في الدعوة لإقامة الوطن الذي يتساوى فيه أهله. وللأسف ما زالت تلك الفكرة، على بساطتها، معلقة في الهواء ومازال إنجازها مطلوباً. فالمشكلة التي واجهت قادة الهيئة هي نفسها التي تواجهنا الآن. وهي المشكلة ذاتها التي تجعل شاباً عاطلاً عن العمل يشتكي من التمييز.

وهي المشكلة ذاتها التي تبرر عدم سعي وزارة الداخلية أو غيرها من الوزارات لاختبار صلاحية ذلك الشاب للعمل فيها بدلاً من توجهها إلى البلدان البعيدة لتجنيد من تتوفر فيهم شروطها.

لا أقلل من خطر الخطاب الطائفي وما يترافق معه من ممارسات، إلا إنني أرى الطائفية عَرَضاً من جملة أعراض علةٍ طالب قادة الهيئة بعلاجها. ولقد خَبَرَ كثيرون منّا شخصياً مدى بُعد نظر أولئك القادة.

لقد عانت البحرين قبل الهيئة وبعدها الكثير ولكن المعاناة كانت مشتركة بين الرعية كافةً. فسقط شهداءٌ من الطائفتيْن ومن كل المناطق. وحين سُجن الآلاف لم تفرق الزنازن ولا الموت تحت التعذيب بين شيعي وسني أو بين ستراوي وحِدِّي، ولا بين هولي وعجمي وعربي قُحّ. كما لم تُعطِ أياً من هذه الانتماءات حصانة لأحدٍ حين تشردت العائلات وتفرق مئات المعارضين في المنافي.

من جهة ثانية لم يقدِّم الناس كل تلك التضحيات من أجل زيادة حصة هذه الطائفة أو تلك في وظائف الدولة. فلو إنحصر العلاج في المحاصصة لما تغير شئ.   فلن نقترب من إنجاز مهمة بناء الوطن عن طريق زيادة عدد الوزراء من هذه الطائفة أو تلك طالما بقينا رعايا ولم نتحول إلى مواطنين بالفعل.   فلو كانت المشكلة تكمن في مظاهر التمييز بين الشيعة والسنة لأمكن علاجها بإجراءات شكلية من قبيل إعادة ترسيم الدوائر الإنتخابية أو إعادة ترتيب الكراسي الوزارية.

طرحتُ قبل سنوات ضرورة تجاوز حصر النقاش في ”الطائفية” فما هي سوى إحدى نتائج استمرار التعاطي مع الناس كرعية. وأن الحل يبدأ بتحديد مستلزمات بناء دولة عصرية يحكمها دستور عقدي يكفل المواطنة المتساوية للمواطنين والمواطنات كافة[1]. وبعد عودتي إلى البحرين وفي سياق محاضرة ألقيتها في نادي الخريجين بتاريخ 15 مايو/أيار ,2001 عددتُ المعيقات التي تواجه بناء الدولة في البحرين.   

في سياق تلك المحاضرة طرحتُ فكرة ”الوطنية الدستورية” مستنداً على إحدى اطروحات عالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس. ومعلومٌ أن تلك المحاضرة أثارت غضب بعض أطراف السلطة مما استنفر عدداً من الرفاق الذين تحولوا إلى مرآة إعلامية للموقف الرسمي. فقام بعض هؤلاء بتدبيج المقالات استنكاراً لما اعتبروه جهلاً بالواقع دفعني للتطرف بل والدعوة لحرق المراحل والعياذ بالله. إلا أن الفكرة وجدت أيضاً من ناقشها بهدوء موافقةَ واعتراضاً وهناك من تبنّاها فأغناها.

وهناك من استملك الفكرة ليخوض عراكاً من طرف واحد يؤكد فيه أن الدولة قد تم بناؤها ونحنُ غافلون، وما على المعارضين إلا الخروج من غفلتهم والمسارعة للتوافق مع الدولة.

شددتُ في تلك المحاضرة المغضوب عليها على أن الوطنية الدستورية والمواطنة الدستورية التي تتولد عنها تستلزم حصول درجة من الإجماع على شروط بناء دولة تتراضى عليها القوى الفاعلة في المجتمع. ويشمل هذا الإجماع السعي لإعادة بناء مؤسسات الحكم لكي تصبح مؤسسات وطنية بالفعل تتعاطى مع مواطنين وليس مع رعايا كما في السابق. وعلى أساس هذا التعاطي يتولد اعتراف المواطنين بشرعية الدولة ومؤسساتها واثقين من تساويهم أمامها بغض النظر عن متانة أو ضعف انتماءاتهم الأخرى بما فيها انتماءاتهم الطائفية والقبلية. وهذه الفكرة وإن استندت إلى هابرماس إلا أن استيعابي لها يستند أيضاً إلى خطاب الحركة الوطنية الداعي لإقامة الوطن الذي يتساوى فيه أهله، وطنٌ يتأسس على الشراكة بين مواطنين متساوين فعلاً وليست شراكة بين المتنفذين في التعاضديات الطائفية أو المناطقية.

أجد نفسي الآن أكرر التأكيد على حاجتنا جميعاً، سواءً في ذلك من كان منا في السلطة أو المعارضة أو في منزلة بين المنزلتيْن، إلى إعادة النظر في أولوياتنا. نحن في حاجة إلى العودة إلى أصل المشكلة والعمل على بناء الدولة الدستورية القادرة على إثبات مصداقية مؤسساتها. فعن طريق إثبات مصداقية مؤسسات الدولة الدستورية تتوافر الآليات التي تتيح تجـــاوز الخطاب الطائفي وما يترافق معه من ممارسات وعندها ستضمن الدولة ولاء الناس لها.

عبدالهادي خلف

13 مايو 2008

الوقت

Hhttp://www.alwaqt.com/blog_art.php?baid=6906

ز