حسبما يخبرنا الروائي العربي عبدالرحمن منيف في أرض السواد فمن بين الدروس التي تعلمها الوالي الجديد “اجعل كل إنسان محتاجاً إليك ومعتمداً عليك، وأنت لا تحتاج ولاتعتمد على أحد بشكل كلي أو بصورة دائمة” (ص308) تفيد هذه النصيحة في إلقاء بعض الضوء لفهم جوانب من تاريخنا السياسي وبعض أشكال ممارسة السلطة طوال الخمسين سنة الماضية، وخصوصاً صناعة الوجهاء وتدويرهم – وهي صناعة أتقنها بشكل خاص رئيس الوزراء خليفة بن سلمان – وهذه النصيحة تفسر أيضا بعض أسباب التحول الملحوظ، والمؤسف في نظري، الذي أصاب بعض قياداتنا وبعض رموزنا ذات التاريخ المشهود لها
إلا أن الوالي الجديد، يخبرنا منيف، تعلم أيضا أن يجعل “قوة أي فرد مستمدة منك وحدك، فإذا تخليت عن هذا الفرد يصبح لا شيء، ويجب أن يحس الجميع بذلك”· (الصفحة نفسها)·
قد يقال إنني أحمِّل رواية عبدالرحمن منيف أكثر مما يجب أن تَحمِل أو تُحمَّل إلا إنني أرى في هذه النصيحة الأخيرة ما ينير بعض الجوانب المتعلقة بالعقيد الفار·
لقد كان فليفل قوياً بقوة النظام كان قاسيا بقسوته وكان فاسدا بفساده· لقد كان يعذب الناس وينتهك حقوقهم ويدوس على كرامتهم من أجل حماية النظام وبأوامر من القائمين على النظام أنفسهم، وهم أصحابه· لقد كان فليفل قويا بقوة النظام· وظل قويا طوال ما احتاجه النظام لا ليس غريبا أن يقرر فليفل، كما يقرر أمثاله ورؤساؤه ومرؤوسوه، حين وجد أن سلطاته واسعة وغير مثيرة، أن يفتح دكانا لحسابه الشخصي· (كان أحمد زكي جيدا في مثل هذا الدور على الشاشة)· وحين قرر النظام أنه في حاجة إلى تبييض الوجه، وجد أصحاب النظام في قائمة جلاوزة جهاز الأمن من فليفل واحداً يصلح للاستخدام ككبش فداء إلاأنه ليس ضحية·
لقد اضطر النظام أمام ضغط مطالب التجار من ضحايا فليفل، ومن بينهم أسماء من علية العائلة الخليفية نفسها، إلى تسليم واحد من أكثر جلاوزة النظام سوء سيرة· فرماه رمية الكلاب، وهكذا أصبح فليفل لا شيء أبدا في عين النظام بعد أن كان فرعوناً وهاماناً وبين فراعنة وهامانات يستند النظام إليهم· أقول بالتأكيد لم يكن فليفل ضحية· فهذا، كما يخبرنا منيف، هو سلوك الملوك·· وعلى الجميع أن يحس بذلك
لكن فليفل لم يكن وحيداً بل كان جزءاً من نظام، بل لقد صنعه النظام· ومع أن بيانات وزارات الداخلية ركزت على فساده المالي موحية بأنه يعمل لحسابه الشخصي· ولكن ألا يعمل الآخرون أيضاً لحسابهم الشخصي أيضا؟ ألا يتذكر الناس مأساة الأستاذ حسين نجادي وبنكه؟ وقصصاً أخرى يقصها الناس·
حسنٌ أن يتخلص النظام ممن يعتبره قد جاوز الحدود المسموح بها للفساد· ولكن هل يكفي هذا؟ بعد أسبوع، شهر، أو بضعة أشهر سيلقي النظام لنا بكبش آخر استنفد النظام منه أغراضه· ولكن لن يكفي هذا ولن يحل المشكلة·
المطلوب بيّن، وطريقه بيّن· المطلوب هو محاسبة الفاسدين، بجميع أنواعهم، والمشجعين عليه· (مرة أخرى: لا تعني المحاسبة، بالضرورة، تقديم الجميع إلى المحاكمة) والمطلوب هو وضع أطر دستورية لمراقبة سلوك الأجهزة واتخاذ الإجراءات الوقائية لمنع الفساد وكذلك الأطر القانونية المحددة للإجراءات العقابية لممارسيه والمشجعين عليه·
يصف عبدالرحمن منيف الوالي الجديد الذي لم يتبع طريق من سبقوه فلم يلجأ “إلى تبديلات كبيرة أو سريعة· ترك الكثيرين في وظائفهم وأماكنهم· لكنه أشعر الجميع أن عهداً جديداً قد بدأ، وأخذ، في الوقت نفسه، ينشئ جهازاً موازياً يعتمد عليه أكثر فأكثر، خصوصا في المواقع العسكرية·
لا يريد أن يعادي الكثيرين، خصوصا في هذه المرحلة، قال وهو يستقبل كبار الموظفين:– عفا الله عما مضى، نحن أولاد اليوم، ونحن في عهد جديد···” (ص 311 – 310)· سيفهم كل منا ما يريده من كلمات أستاذنا منيف إلا إن الخطأ الذي يتكرر دائماً هو التعويل على “عفا الله عما سلف”· لقد سبب هذا التعويل أهوالا في أرض السواد، وسيسبب لنا أيضاً ما لا نحب ولا نرضى·
كانت الناس تتكلم وتكتب عن ممارسات فليفل وأمثاله، وممارسات من هم دونه ومن هم فوقه· وكان الجواب من أهل النظام، حتى الديمقراطيين منهم، بأن هذا نبش للتاريخ لا حاجة لنا به· وجاء بعض أصحابنا وبعض قياداتنا ورموزنا ليقولوا العبارات نفسها، وإن من منطلقات أخرى·
إلا إن ممارسات فليفل وأمثاله ومن هم فوقه ودونه ليست تاريخا، فحسب بل هي جزء من ذاكرة حيّة تعيش مع الناس· تعيش مع كل من اعتقل أو عُذب أو هُجر أو اُغتصب أو أهين أو تم ابتزازه ماليا أو أخلاقيا· وهي ذاكرة حية تعيش في ذهن أهالي الشهداء وأولئك الذين أصيبوا بعاهات جسدية أو نفسية من جراء التعذيب ومن جراء انتهاكات حقوقهم، وأولئك الذي دمر مستقبلهم المهني أو حياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم بسبب ما فعل بهم فليفل وأمثاله ومن هم دونه وفوقه·
ستبقى هذه الذاكرة، بشكلها الجمعي، وبأشكالها الفردية، وبكل ما تتضمنه الذاكرة من وقائع وقعت فعلا أو تم تخيلها، وبكل ما يعتور الذاكرة من تشويه أو إضافات أو اختلاق أو تزويق· إنها ذاكرتنا التي تجعلنا نبتهج لسقوط فليفل رغم أننا نعرف أنه لم يكن أكثر من برغي في آلة القمع التي تحكمت، وتتحكم، في مصائرنا منذ عقود·
ستبقى أم الشهيد تسأل عمن قتل ابنها وستبقى صورة المعذب تلاحق ضحيته وتبقيها باحثة عمن عذبها· إنها ذاكرتنا الجمعية وذاكرتنا الفردية التي ستبقى تؤرقنا جميعا، مواطنين ونخبا ومسؤولين·
ستبقى هذه الذاكرة، بأشكالها العائق الذي لابد لنا من الاعتراف به والتعاطي معه، ومن ثم تجاوزه لكي تُمهد الطريق نحو تحول بلادنا نحو نظام دستوري تقوم شرعيته على اعتراف الناس بهذه الشرعية لا على الخوف أو الطمع·
بعد كل التطبيل عن “مكرمات” وعن شفافية وعن انفتاح وعن وعن·· مازالت الذاكرة، بأشكالها تلح علينا أن نتعاطى معها كما يجب، لا على أسلوب عفا الله عما سلف· فليس للشعوب، ولا للأفراد من ضحايا القمع، تلك القدرة الإلهية على الصفح·
مازالت الناس تبحث عن أجوبة عن أسئلتها: من تصالح مع من؟ من سامح من؟ بل هناك من يسأل هل يمكننا أن نتصالح دون أن نعرف ماذا فعل كل منا بالآخر؟ أي دون أن نتصارح حول مختلف المصائب التي عانت البلاد منها طوال عقود مضت، ومن المسؤول عماذا؟
ستبقى ما تحوي ذاكرتنا مما فعل فليفل وأمثاله ومن هم دونه وفوقه مثل جرح ينز دماً وقيحاً· ولن تكفي تغطيته بضمادات مكرمة هنا ومكرمة هناك، أو جمعية هنا وجمعية هناك، أو جريدة هنا أو مقالة أسبوعية هناك·· لن تكفي هذه الضمادات لمعالجة الجرح المتقيح ففي كل يوم نتذكر فيه شهيدا، أونشاهد معاقا إعاقة التعذيب، أو نرى أولادنا وبناتنا الذين دمر مستقبلهم المهني بسبب سنوات السجن أو التهجير التي فرضت عليهم، في هذه الأوقات وأمثالها تعود الذاكرة الجمعية، والذاكرات الفردية، بكل ثقلها لتنزعنا من أحلام اليقظة التي خدرت بعض مشاعرنا، فنعرف أن الطريق مازال في بدايته، وأن التحول نحو الديمقراطية في بلادنا لن يبدأ قبل أن نتصالح ولن نتصالح قبل أن نتصارح
عبدالهادي خلف
نقلاً عن الطليعة الكويتية 18-24 مايو 2002
http://local.taleea.com/archive/column_details.php?cid=347&aid=56&ISSUENO=1527