المسافة بين الحلم والكابوس

قبل أكثر من ستة أعوام بمناسبة الإحتفال الرسمي السادس  بتحول البلاد من أمارة إلى مملكة  نشرت الصحافة مقالاً يحمل توقيع الملك تحت عنوان “حلمت بوطن يحتضن كل أبنائه”.  وفيه أشار إلى أنه وثق بالشعب فدفع بإتجاه الاٍستفتاء على ميثاق العمل الوطني بهدف الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة حسب تعبيره المفضل “رغم المحاذير التي كانت تتردد، ونشوء جيل بحريني جديد لا خبرة له في التقاليد الانتخابية”. 

توقف الملكُ طويلاً في ذلك المقال  ليندد بما سماه الوجود الأجنبي  الذي عمل ” على تقليص مقومات استقلال الوطن” ونفى إلى خارج البلاد الوطنيين المخلصين ممن طالبوا بالاستقلال وعملوا في سبيله.  ولهذا وجدتُ وقتها أن من اللازم التذكير بأن رئيس المحكمة الخاصة التي إنعقدت  في البديع في صبيحة 22 ديسمبر 1956 لمحاكمة القادة الوطنيين كانت مكونة من ثلاثة من كبار رجال العائلة الخليفية وبرئاسة  الشيخ دعيج بن حمد , وهو عم والد الملك نفسه.   ومعلومٌ أن تلك المحكمة القراقوشية أصدرت عصر اليوم التالي , أي في أقل من ثلاثين ساعة, أحكامها القاسية بنفي ثلاثة من قادة هيئة الإتحاد الوطني و بسجن إثنيْن.  ومعلومٌ أيضاً  أن  جد الملك الحالي لم يسمح بإستئناف تلك الأحكام الظالمة بل  صادق عليها وإستعان بالسلطات البريطانية لتنفيذها.  فتولى البريطانيون ترحيل  المرحومين الباكر والشملان والعليوات إلى جزيرة سانت هيلانة بينما تولت حكومة البحرين سجن المرحوميْن فخرو والموسى في جزيرة جدا.    

 من جهة أخرى أخذتُ, مثل كثيرين غيري, على محمل الجد تأكيد الملك في تلك المقالة على أنه, ولأسباب شخصية, ينفر من إجراءات النفي أياً كانت الاعتبارات والملابسات السياسية والقانونية.   ولهذا كان قراره  منذ صباه أن يكون الوطن في عهده مفتوحاً لكل أبنائه وبناته بدون إستثناء.  ولهذا أيضاً تفاءل كثيرون منا حين قرأنا التأكيدات الملكية على أنه “لا عودة للماضي” وان عقارب ساعة الوطن لن تعود إلى الوراء. فلقد تعهد الملك شخصياً بأنه سيتكفل بوضع  الضمانات وكل ما يلزم “لعدم عودة الوطن الى تلك التجارب المرة والطرق المسدودة التي أعاقت المسيرة”.

كان الكلام كلاماً ملوكياً بلا شك. فهاهو ملك البلاد, سليل القبيلة التي ما إنفكت تفاخر بأنها فتحت البحريْن عام 1783, يحلم بنفس الحلم الذي حلم به قادة الحركة الوطنية منذ بدايتها: وطنٌ يحتضن كل أبنائه وبناته. ألم يكن هذا هو حلم الباكر والعليوات والشملان وآلاف المنفيين من بعدهم؟ ألم يكن هذاهو حلم الموسى وفخرو وعشرات الألوف ممن زجت بهم السلطة في معتقلاتها وسجونها؟ ألم يكن هذا هو حلم بونودة والقصاب و بونفور والعويناتي وغلوم وعشرات الشهداء من قبلهم وبعدهم؟  

وعلى عادتهم لم يتخلف الطبالون ممن يعرفون أولا يعرفون عن تدبيج المدائح بمناسبة تلك المقالة ولا عن تعظيم الملك الذي صار يحلم مثل الناس العاديين بذلك الوطن الذي ناضل الكثيرون من أجله رغم  السجن والتعذيب والقتل والنفي وقطع الأرزاق.   بل رأينا منهم من حملوا الطبول والمباخر وبالغوا في المزايدة فبشروا الناس بأن الحلمَ قد تحقق بالفعل , أو إنه قد  دنا وتدلى فصار قاب قوسيْن أو أدنى.

 بطبيعة الحال لم يكن الكلام أكثر من “كلام جرايد” وإن كان بتوقيع الملك نفسه.   فدون تحقيق ذلك الحلم مسافات لا بد من أن تُقطع وأكلاف لابد أن تُدفع. ولم يصدر عن الملك ما يشير إلى إستعداده إلى قطع  تلك المسافات ودفع تلك الأكلاف. فرغم ما يعلنه “مشروع الإصلاح الملكي” ورغم ما يؤكده حلمه فلقد بقي الملكُ أسير إنشغاله بأمور جانبية بدلاً من مواجهة إستحقاقات بناء الدولة.  فرأينا كثيراً مما يبهر وقليلاً مما يدوم. بل لقد صار الإنشغال بزخرف  الإعلام و بهرجة العلاقات العامة بما فيها الإتصالات الخارجية أولى بكثير من الإلتفات إلى ما يدوم من أفعال تقود إلى الدولة الدستورية وإجراءات تؤسس لها. 

علاقات عامة بدل الإصلاح السياسي والمؤسساتي

ربما كانت أكثر التوصيفات إنصافاً  لجهود الملك منذ توليه الحكم  عام 2001 وحتى دخول القوات السعودية إلى البحرين وإعلان حالة الطوارئ في 15 مارس  2011 هي تلك التي تُثّمن  قدراته التكتيكية المثيرة للإعجاب.  وتتبين هذه القدرات  بصورة واضحة في مجاليْن. أولهما إحتفاظه بسلطته رغم الهزات الدورية من جراء المعارك الداخلية التي خاضها وما زال يخوضها في إطار العائلة الخليفية نفسها. فلا شك أن لدي الملك ما يلزم من تأهيل و تحالفات ومرونة للتعاطي مع  تقلبات ميزان القوى بين أجنحة عائلته وتحالفاتها الداخلية والإقليمية.  وثانيهما أن الملك رغم ما تستنزفه المعارك العائلية من طاقة فلقدتمكن من تحقيق إنجازات أخرى خارج  إطار العائلة وخاصة  في  مجال العلاقات العامة على الصعيديْن الداخلي والخارجي.  فعلي مستوى الداخل تبقى صورة الملك, حتى بين أعتي المعارضين وأكثرهم راديكالية, أفضل من صورة ممثلي أيٍ من الأجنحة الأخرى في العائلة الحاكمة وخاصة عمه رئيس الوزراء خليفة بن سلمان.  وحتى بعد دخول القوات السعودية إلى البحرين للمشاركة في قمع إنتفاضة 14 فبراير.  أما على على الصعيد الخارجي فيمكن ملاحظة أن أكثر إنتقادات حلفاء السلطة وأصدقائها الغربيين يتجه نحو خليفة بن سلمان الذي يفاخر بأنه هو من إستنجد بالملك السعودي لمواجهة الإحتجاجات في البحرين و “تطهير دوار اللؤلؤة”.

رغم الإعجاب الذي لم أخفه بقدرات الملك التكتيكية وبما حققه من إنجازات  على صعيد عائلته وفي مجال العلاقت العامة داخليا وخارجياً  فلا بد من التأكيد على حقيقة أنه لم يتمكن بل لم يتجه إلى تأطير كل ذلك ضمن إستراتيجية متكاملة لبناء دولة.   فالتسليم بإنجازات الملك التكتيكية وفي مجال العلاقات العامة لا يمنع المتابع المنصف من ملاحظة إن أداءه في مجال الإصلاح السياسي ظل أداءً متواضعاً. بل لا يصل هذا الإداء إلى مستوى  التوقعات التي عقدها عليه كثيرون.  فأين نحن الآن من تلك التعهدات التي أعلنها في عام 2001 عن عزمه على التصدي لبناء مملكة  دستورية حديثة تضاهي الممالك الدستورية الأخرى؟ وأين نحن من التصدي  للمهام الكبيرة التي يتطلبها عصرنة نظام حكم قبلي وتحويله إلى نظام حكم ديمقراطي؟

لقد تجاهل الملك  أن حلمه بوطنٍ يحتضن جميع مواطنيه ســيبقى مجرد حلم طالما هو يرفض أن يتعاطى مع موروث الغزو وسردياته بأشكالها المختلفة.  بل لقد رأيناه يتسابق مع الأجنحة الأخرى المنافسة له ضمن عائلته على إحياء  ذلك الموروث وتكثير مظاهره ورموزه وإبقائه أساساً ثابتاً لتأكيد شــرعية سلطته. ولعل فيما حدث منذ دخول القوات السعودية  وإعلان حالة الطوارئ ما يكفي من الأمثلة على إستعداد هذه الأجنحة على تدمير النسيج الوطني في سبيل مصالحها.

يعرف كل أهل البحرين سواء أكان من الموالين أو المعارضين أو من كان بين المنزلتيْن أن موروث الغزو لا ينحصر في مظاهر أو علامات رّمزيّة معدودة مثل الألقاب أو حتى المســلكيات و أساليب التعامل مع الناس. بل نراها في أشـــكالٍ ملموسة وفي العالم الحقيقيّ المُعاش.  كما نجد موروث الغزو في القصائد البذيئة التي ينشرها كبار رجال العائلة الخليفية ومواليها, كما نجدُه في اللوحات المنتشرة على جوانب الطرقات وواجهات الأبنية وفي النُصُبِ والمجسمات المقامة بهدف تذكير الناس نهارأ وليلاً بمن هو الغالب عام 1783 ومن هو المغلوب حتى الآن.  ولقد كشفت مجريات الأحداث منذ إندلاع حركة الأحتجاجات في منتصف فبراير وحتى الآن عمق البئر الذي تغرف منه سرديات الغزو.

أركز الآن, ودائماً, على موروث الغزو ليس لأنه السبب الوحيد  في إستمرار  معاناة البلاد مما سماه الملك في مقاله “تلك التجارب المرة والطرق المسدودة التي أعاقت المسيرة”. فلا خلاف على أن ثمة أسباب أخرى بنفس الإلحاح والأهمية.  إلا إن  بداية الطريق  هو إعلان العزم على تخليص البلاد كلها والعائلة الخليفية نفسها من موروث الغزو وسردياته. 

ذهب المعز وسيفه

إعتمد الملكُ منذ يومه الأول في الحكم وحتى الآن على التعاطي على المعالجات التكتيكية بدلاً من البحث عن وضع إستراتجية متكاملة لبناء دولة مستقرة ومتطورة ولا تكون رهينة  سلسلة المواجهات الدورية بين السلطة والناس كلهم أحياناً أو شرائح منهم أحياناً أخرى.  فلا شك أن الملك ما يكفي من الأسباب حتى يبقى  مقتنعاً  بأنه قادرٌ  إما بسيفه أو بذهبه على إدامة الأوضاع على حالها.  فمن وجهة نظره فإن السيف والذهب يوفران له مساحتيْن واسعتيْن لممارسة براعته التكتيكية. 

أما المساحة لأولي فهي أمنية عسكرية وتعتمد على  على قدرته على  إستنفار الأجهزة المختلفة  في إجراءات إستبقاقية أو  مباشرة لإشاعة الخوف بين الناس عموماً وبين النخب خصوصاً.  ولم يختلف سلوك الملك في هذا المجال عما عرفته البلاد طوال حكم جدِّه وأبيه.  إلا أنه لم يكن في حاجة ملحة إلى إشهار سيفه دائماً كما كانا يفعلان.  فلقد نجحت ستة خمسة عقود متواصلة من القمع في إستبطانه بين كثيرين من النخب السياسية في البلاد. وإنتشرت  مقولات تقود إلى التسليم بالواقع وعدم مقاومته بدءً من التحذير من مغبة “حرق المراحل” مروراً بترديد  أن “السياسة هي فن الممكن”  أو تجميل الإنتهازية وتغليفها بقولة “ما لا يدرك كله لا يُترك جله”. وبطبيعة الحال هناك الكثير ممن يصدقون ما يردده فقهاء السلاطين عن وجوب طاعة أولي الأمر وإن طاعتهم  من طاعة الله.

أقول لم يكن سيف الملكُ مشهراً دائماً. ولكنه كان موجوداً في صورأخرى وبنفس الصرامة والقسوة . نعم ألغى الملك مرسوم أمن الدولة إلا إنه أبقى على المؤسسات والأشخاص الذين بطشوا بالناس طوال العقود السابقة. ذهب ذلك المرسوم وبقيت الممارسات نفسها وبقي الجلادون أنفسهم.  بل وأصدر الملك المرسوم 56 لعام 2002 الذي قنن الإفلات من العقاب.  علاوة على ذلك تم تطويع القوانين السائدة وإستصدار غيرها لإبقاء  جدار الخوف شاهقاً لا يجرؤ على محاولة تخطيه إلا القلة.   ولهذا لاحظنا إنه وفيما عدا الأشهر الأولي بعد التصويت على الميثاق لم تخل السجون من معتقلي الرأي.  ولهذا أيضاً  لاحظنا أن المنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان محلياً وعالمياً لم تتوقف طوال السنوات المنصرمة من العهد الملكي على توجيه النداءات بضرورة توقف السلطات البحرينية عن إنتهاك حقوق الإنسان. ولعلها صدفة أن تصدر  منظمة العفو الدولية تقريراً مسهباً بعنوان “القمع في البحرين ظ حقوق الإنسان على مفترق الطرق” قبل أيام من إندلاع إنتفاضة 14 فبراير.

أما المساحة الثانية التي مارس فيه الملك براعته التكتيكية فهي مدنية.  وتعتمد هذه على  قدرته على التحكم في موارد البلاد وأساليب توزيع الخدمات فيها ستمكنه  من إعادة هندسة المجتمع بما يخدم إستقرار حكمه.  وبالفعل وفرت موارد النفطية ومساعدات الدول اخليجية للملك مساحة واسعة للحركة عرف كيف يستخدمها.  ولهذا ,أحسبه, قد إقتنع بأنه  ليس بحاجة للتفكير في  الإستحقاقات التي يتطلبها الإصلاح السياسي ناهيك عن إستحقاقات  بناء الدولة الدستورية الحديثة المستقرة والساعية للنمو والتطور. ولهذا رأيناه منذ يومه الأول في سدة الحكم يتصرف على أساس أن ولاء الناس يُشترى بالمكرمات. أسارع للقول أن الإنصاف يقتضي أن أشير إلى الملك قد رأى في تهافت الوجهاء بمن فيهم بعض وجوه المعارضة السياسية السابقة, ما شجعه على أن يجعل توزيع المكرمات أو التلويح بها جزءً من ترسانة حكمه.

إلا أن السيف والذهب, على كثرة إستخدامهما,  لا يحققان “الحلم بوطن يحتضن كل أبنائه وبناته”.  فلا يمكن للقمع مهما كان سافراً وفاتكاً أن يقتل لدى الناس رغبتهم في العيش بكرامة وفي مقاومة الظلم. ولا يمكن للمكرمات أن تشتري كل الناس في كل الأوقات.  ومع ذلك تجاهل الملك  كلّ إشارات التحذير من أنّ المكرمات والهبات الملكيّة ليست هي الأسلوب الأنجع للإصلاح.  كما تجاهل كل الدروس التاريخية الذي نتعلمها من إنهيار أنطمة الإستبداد رغم قدرتها غير المحدودة على البطش بمعارضيها.    

حين تخذل الملك براعاته

مع بداية هذه السنة وبتأثير مزدوج من الإنتفاضة التونسية والمصرية أخذت بعض أطراف المعارضة البحرينية في التحضير لتحركات شعبية 14 فبراير أي  في الذكرى العاشرة للتصويت على ميثاق العمل الوطني. وكان يمكن للمهتمين متابعة أغلب التحضيرات الدؤوبة لذلك اليوم.  إلا إنني لا أعرف  أحداً تجرأ على توقع أن تتطور تلك التحركات لتصبح إنتفاضة لم تشهد البحرين مثلها طوال تاريخها.

أسارع للقول أنني لا أملك ما يكفي من معلومات لتحديد العوامل التي جعلت إحتجاجات 14 فبراير تتسع لتصبح علامة فارقة في تاريخ البلاد.  ما نعرفه إن السلطة  سارعت إلى سل سيوفها لتخويف الناس بل وقتلهم  بعد أن فشل ذهبها في إسكاتهم.   ولهذا لا أجد مبالغة في القول أن ما حدث بعد ليلة الغدرفي السابع عشر من فبراير هو بداية تاريخ جديد في البحرين. ولا في القول أن ليلة الغدر تلك  مثلت نهاية مأساوية لنهج إستند على البراعة التكتيكية والمعالجات الفوقية  الآنية عوضاً عن البحث مع الناس عن أفضل السبل لوضع إستراتيجية تقود إلى بناء الدولة الدستورية التي تضمن لكل مواطنيها المساواة وتوفر بالتالي أسباب إستقرارها ونموها.

نعرفُ الآن أن الأجهزة الأمنية المعنية لم تكن تتوقع أن تزيد المشاركة في تحركات 14 فبراير عن مثيلاتها في الأشهر والسنوات السابقة. فرغم ما لديها من وسائل للتنصت ولإستقاء الأخبار ولإنتزاع المعلومات أو شرائها  لم تكن السلطات الأمنية تتوقع أكثر من أن يتجمع بضع عشرات أو ربما مئات فتأتي قوات الأمن وشرطة الشغب لتلقي قنابل مسيلة للدموع فتصيب برصاصها المطاطي وأسلحتها الأخرى عدداً وتعتقل عدداً آخر. وقبل ذلك ستحاصر كعادتها بيوت عدد من الرموز و النشطاء السياسيين لمنعهم ن المشاركة في تلك التحركات.  وكالعادة أيضاً ستنتهي الردحة بحفلة إعلامية  يندد فيها الطبالون بالمخربين “الصفويين” الذين يزجون بالأطفال وكبار السن والنساء في الإحتجاجات والإعتصامات لتجد القوات الأمنية نفسه مضطرة إلى توجيه قنابلها ورصاصها إلى هؤلاء. 

ولم تختلف توقعات أغلب من أعرف من شخصيات المعارضة عن هذا.  فلم يكن أحدٌ يجادل في أن السلطة تمكنت بوسائل عدة قانونية وغير قانونية من تكبيل الجمعيات السياسية المعارضة وتقليص قدرتها على الحركة في الشارع.  وكان لسان حال السلطة هو ما يردده الملك دائما: من لديه إعتراض أو رغبة  فليتجه إلى القنوات الدستورية التي يعني بها مجلس النواب. رغم أن هذا المجلس كما هو معلوم لا يهش ولا ينش بل أثبت أنه عاجزٌ حتى عن تغيير مادة من مواد لائحته الداخلية.

أسارع هنا لتسجيل أن الأستاذ عبدالوهاب حسين كان من بين قلائل من قادة المعارضة ممن كانت لهم توقعات أخرى. فلقد سمعته يكرر فجر ذلك اليوم ما معناه  “إننا لن نخرج هذه المرة لمجرد تسجيل موقف إحتجاجي أو لإثبات وجودنا وإبقاء شعلة الممانعة والمقاومة مشتعلة ومنيرة. بل سنخرج لإستعادة الكرامة المهدورة و إسترجاع الحقوق. ونحن على أستعداد لأن ندفع ثمن ذلك”.  حقاً قال الأخ عبدالوهاب وفعل.

أما الملك نفسه فلقد تصرف كما يتصرف دائما ولم يخيب توقعات متابعي سلوكه السياسي.  ففي مواجهة إالإستعدادات لليوم الكبير في 14 فبراير رأينا سلسلة من “المبادرات”الإستباقية . وكان أولها الإعلان الرسمي بمكرمة ملكية بقيمة ألف ديار لكل عائلة بحرينية.   لقد  كان بإمكان الملك التواصل مع أيٍ من رموز المعارضة  المتصدين لقيادة تحركات 14 فبراير من أمثال الأستاذيْن عبدالوهاب حسين وإبراهيم شريف. إلا إنه إستسهل الأمر  وإكتفي بإستعدادات أجهزة الأمن و بإعلانه عن  مكرمة الألف دينار.  مما يثير التعجب أن أحداً في السلطة لم يتوقف للتساؤل  لماذا لم يأتِ الفقراء زرافاً ووحداناً لإستلام الألف دينار؟  وفوق ذلك لماذا كان أنصار المعارضة يرددون الشعارات “لا ألف و لا ألفين من نبيعك يا بحرين” أولا ألف ولا ألفين .. ما تخدع شعب البحرين”؟ و  لماذا  لم تفعل المكرمة  عشية 14 فبراير فعلها المرجو منها؟ بل لماذا فعلت العكس تماماً.  فحين إعتبر كثيرون تلك المكرمة رشوة إعتبروا التلويح بها إهانة وعلامة ضعف شجعتهم على التوافد نحو دوار اللؤلؤة.

الإصرار على نهج فاشل

لم تنفع رشوة الألف دينار ولم يتمكن الرصاص وقنابل الغاز المنثورة  ليلة الغدرعلى المعتصمين في دوار اللؤلؤة  من منع الناس من ممارسة حقهم في الإحتجاج وفي المطالبة بتغيير  حقيقي يحقق لهم ما طالب به من قبل ستة عقود قدة هيئة الإتحاد الوطني.  ورأينا في الأسابيع التي تلت ليلة الغدر أن الدنيا تغيرت وإن عقارب ساعة الوطن لن تعود بعد الآن إلى الوراء. 

بعد ليلة الغدر رأينا شواهد كثيرة على أن الملك قد خذلته براعته التكتيكية. فلقد وصل الحبل إلى آخره. فحين إنهار جدار الخوف ولم تعد المكرمات تكفي رأينا مظاهر إرتباك وتخبط في صورة “مبادرات” متناقضة لا تنسجم مع ما نعرفه عن براعة الملك في مجال لتكتيك العلاقات العامة. وسأكتفي  بالإشارة إلى ثلاثة أمثلة لن أفصلها لحاجتي إلى المزيد من المعطيات حولها.

أما المثال الأول فجاء بعد يوميْن من السماح للمحتجين بالعودة  للإعتصام في دوار اللؤلؤة. فلقد أصدر الملك أمراً ملكياً بتكليف ولي عهده   بالحوار “مع جميع الأطراف والفئات في مملكة البحرين  استثناء”  ولقد كانت هذه خطوة غير مسبوقة في تاريخ البلاد. فلم يحدث أن تحاورت السلطة بشكل مباشر وعلى هذا المستوى مع أيٍ من فصائل المعارضة. إلا أن الدعوة للحوار جاءت بدون ممهدات وبدون ضمانات لجديته. نعم تضمن أمر التكليف الملكي إعطاء ولي العهد “جميع الصلاحيات اللازمة”. إلا أن أحداً ما كان ليأخذ الأمر بجدية ما دام  الملك لا يستطيع حتى ولو أراد أن يحسم موقفه من عمه, رئيس الوزراء.  ولهذا ترددت فصائل المعارضة وطالبت بتوفير الضمانات كي لا يتحول الحوار, كما تحول التصويت على ميثاق العمل الوطني,  مجرد بهرجة علاقات عامة أو إلى خديعة أخرى تقود إلى تشتيت صفوف المعارضة.   

 أما المثال الثاني فجاء بعد ثلاثة أيام من تكليف ولي العهد بالحوار حين أزاح الملك “ثلاثة وزراء بوصفهم وزراء تأزيم”.  وأبرز هؤلاء كان أحمد عطية الله الخليفة الذي كان يتولى رسميا حقيبة شئون مجلس الوزراء. ولا شك إن تلك المبادرة الملكية كانت “ضربة معلم” إعلامية بسبب ما يمثله أحمد عطية الله في عيون المعارضة.  ومعلومٌ أن المعارضة تعتبر أن مهمة ذلك الوزير الحقيقية هي الإشراف على تنفيذ مخطط  إعادة تشكيل التركيبة الديغرافية/الإجتماعية في البلاد حسبما هو مفصل في التقرير المعروف بإسم “تقرير البندر”.  كانت يمكن لتلك الحركة أن تكون  ضربة معلم فعلاً. وكان متوقعاً أن يستطيع الملك إستثمارها سياسياً إلى أبعد الحدود. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث لأن الناس شاهدت على في نشرات الأخبار التي بثها التلفزيون الكويتي أن  “وزير التأزيم” المعزول  كان في مقدمة الوفد المرافق للملك في زيارته إلى الكويت بعد يوم من إزاحته.

أما المثال الثالث فجاء قبل أسبوع من إستدعاء القوات السعودية إلى البحرين وإعلان حالة الطوارئ فيها. فلقد سُرِّبَ خبر قبول الملك إزاحة عمه من رئاسة الوزراء وخاصة بعد إنتشار فضائح أدلة قضايا الف فساد المنسوبة إليه ومن بينها إستحواذه على موقع المرفأ المالي بما فيه من مباني ومرافق مقابل دينار واحد.  لم يتمكن الملك من تحقيق هذه المبادرة لعدة أسباب.  أولها ربما هو خشيته المبررة من إنعكاس إزاحة عمه على ميزان القوى العائلي.  وثانيهما هو سرعة خليفة بن سلمان في تحريك  أنصاره ضمن العائلة الخليفية ومواليها.  بعدها شاهدنا الوفود تتترى حاملة صورخليفة وهي تجوب العديد من المناطق قبل التوجه إلى قصره معلنة ولاءها له.  وثالثهما هو تحرك خليفة بن سلمان سريعاً نحو السعودية طالباً نجدتها.  

شيئاً فشيئاً يتبين للمتابع  كيف أن براعة الملك التكتيكية لم تعد تسعفه. أو ربما ترافقت ظروف عدة لتحرمه من تلك البراعة.  فلقد تغيرت الأحوال بعد الرابع عشر من فبراير.  فما  لم يكن الملك قادراً أو راغباً  في تحقيقه بدأ يتشكل بصمود الناس وبإرادتهم.  ولم  يغير من مسار التغيير المخازي التي إرتكبتها القوى الأمنية والعسكرية طوال الأشهر التي تلت دخول القوات السعودية إلى البحرين. فرغم أعداد المعتقلين والمفصولين من أعمالهم ورغم أجواء القمع ورغم ما فعله الملثمون على الحواجز الأمنية والطيارة ورغم ما قامت به لجان التطهير في مواقع العمل لم تتمكن السلطة من إعادة إحكام سيطرتها على البلاد أو إسكات المعارضة. وما زال الناس يتعاملون معها كسلطة أمر واقع تفتقد إلى الشرعية.

أقول لقد تغيرت البلاد إلا أن الملك ما يزال مقتنعاً بأن براعاته التكتيكية ستمكنه من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ولكنه يحاول أن يفعل ذلك بنفس الأساليب التي خذلته.  فهو ما يزال مشغولاً بأمور هامشية بدلاً من مواجهة الواقع وإستحقاقاته. ورأينا خلال الأسابيع الأخيرة مثليْن على لجوءه إلى ما يبهر دون أن يدوم.  وما يزال يحسب أن ما يجري في البلاد هو معركة علاقات عامة يستطيع أن يكسبها من يملك  مالاً أكثر أو من يحرك أبواقاً أعلى صخباً.

أما المثال الاول فهو الإعلان عن “حوار التوافق الوطني” الذي جمع ثلاثمائة شخص بمن فيهم مندوبون عن كل من  طيران الخليج وخدمات الطيران ومطار البحرين. ليس في الدعوة ما يشينها سوى أن المقصود منها هو الحصول على بهرجة إعلامية تبهر الآخرين بمن فيهم أصدقاء السلطة في الغرب.  إلا أن البهرجة الإعلامية لا تدوم والأنبهار بها وقتي. بل قد يكون لها مردود عكسي حين يكتشف المدعوون وحتى أصدقاءالسلطة أن الأمر لا يزيد في حقيقته عن  منتدى لتبادل الحديث.  نعم كسب الملك وقتاً ولكنه قصير. 

أما المثال الآخر فهو الإعلان عن تشكيل اللجنة الملكية المستقلة  لتقصي الحقائق في أحداث فبراير/مارس وما تلاها.  لا جدال في أن هذه ضربة إعلامية مبهرة وغير مسبوقة فعلاً.  ولا جدال أيضاً أنها ابهرت كثيرين في الداخل والخارج. ولقد قرأنا ما أزجاه رئيس اللجنة نفسه من مديح للملك.  إلا إن أمام اللجنة عقبات كثيرة لن تتمكن من تجاوزها في ظل توازن القوى القائم في العائلة الخليفية. وثمة أسئلة  على اللجنة الإجابة عليها قد تقود إلى عكس النتائج التي يتوخاها الملك من خطوة العلاقات العامة.

بين الحلم والكابوس

لستُ  منجماً ولا قدرة لي على التوقع دون معطيات قابلة للتدقيق. ولكني أغامر بتكرار القول أن البحرين قد تغيرت بعد  14 فبراير وإن الأمور فيها لن تعود إلى ماكانت عليه. ولا ينحصر التغيير في  جمهور المعارضة الذي  دمر جدار الخوف بصموده  وإصراره على المقاومة.  بل علينا ملاحظة أن تغييرات تجري في مجمل الساحة البحرينية. في صفوف السلطة وفي صفوف الموالاة.  وهي تغيرات تحمل خطر أن يتحول حلم الملك إلى كابوس يقلقه كما يقلقنا.

فبعد 14 فبراير تجد المعارضة في صفوفها من لا يكتفي بالمطالبة بإصلاحات سياسية وإجراءات لتخفيف أعباء المعيشة بتوفير العمل والسكن والكرامة. ولا من يكتفي بمملكة دستورية تضمن المساواة لجميع مواطنيها. بل صرنا نسمع أصواتاً تتزايد تطالب بتغيير النظام برمته.  وفي جهةالموالاة هناك من لم يعد يكتفي  بترداد” الله لا يغير علينا”. وهناك من لم يعد يكتفي بقولة “لنا مطالب”. بل هناك من يريد حصته في الدولة لأنه يرى أنه هو الذي أنقذ السلطة من الإنهيار”خلال 48 ساعة” حسبما هو متداول. بل  أن هناك من صاريجاهر ومن على المنابر الرسمية بالمطالبة بتغيير النظام السياسي القائم برمته وإقامة حكم الله.  وبطبيعة الحال لم تعد العائلة الخليفية كما كانت. فرغم الصورة الرسمية السعيدة التيتصر على تأكيدها أجهزة الإعلام الرسمية  فلا يمكن لأحد أن يقلل من عمق الشروخ التي أحدثها إستعداد الملك للتخلي عن عمه او ألتي  أحدثتها جهود العم الشرسة لتثبيت مواقعه.

أما حلم الملك نفسه فليس هناك ما يشير إلى إحتمال تحققه. فللقد خذلته  براعات الملك  التكتيكية وإنشغالاته بما يبهر في مجال العلاقت العامة.   وهاهو الملك الآن في وضع أسوأ مما كان عليه في بداية عهده.  فهو لا يواجه معارضة ستكتفي بإصلاحات شكلية.  ولم تعد هتافات “يسقط حمد” وحدها هي التي تقلقه .  بل هو يسمع في الندوات والتجمعات التي تعقدها فصائل الموالاة  في المحرق والرفاع وفي مدينة حمد هتافات “خليفة….وبس”.  وهو يرى صور عمه وحدها على كثير من المنشآت بل وعلى مصفحات الأمن وقوة الدفاع التي تقف على تقاطعات الطرق.   بل لم يعد عم الملك هو مصدر قلقه الوحيد في العائلة   فهناك “المشير” أحمد بن خليفة التي يعتبره أنصاره “بطل” تطهيرالدوار.  وفوق ذلك كله فلاشك أن الملك سمع ما قيل بحقه بعد إطلاق سراح الشاعرة آيات القرمزي. ولا شك أنه سمع من يتهكم به  متسائلاً “ماذا بقي من هيبة الملك والدولة والداخلية والقانون أمام التنازلات والعفو عن الخونة..لن ينفع إلا قبضة المشير الوحيد اللي قدر عليهم”.       

عبدالهادي خلف

21 July 2011

4 thoughts on “المسافة بين الحلم والكابوس

  1. يعجبني طرحك وتحليلك
    نتمنى لك التوفسق وواصل
    نتمنى نشوفك في مقابلات تلفزيونية اكثر عجبتني مشاركتك في برنامج حديث الثورة على لالجزيرة

  2. جميل جداً … تحليل متميز جداً … البلد لا تصلح بالمكرمات بل تصل بصاحبها للإنفجار في نهاية المطاف. لقد أستطاع الملك المذعور ان يشعر الناس أنه افضل من غيره فترة من الزمان.. ولكن هذا تلاشي… لدرجة انه أصبح الآن الشعار الشهير يسقط حمد يردد في كل مكان في البحرين

  3. Dear Mr. Khalaf,
    people of bahrain need mroe effort from you.
    people of bahrain need mroe effort from you.

    نتمنى نشوفك في مقابلات تلفزيونية
    نتمنى نشوفك في مقابلات تلفزيونية

    Thanks,

Comments are closed.