تمهيداً لكتابة هذه الملاحظات أعدتُ قراءة الخطاب الذي ألقاه الملك بتاريخ التاسع والعشرين من يونيو وكذلك التوضحيات التي
كتبتها أختنا فريدة غلام في اليوم التالي بعد أن حضرت جلسة الإستئناف الأولى لزوجها الأخ إبراهيم شريف ورفاقه المعتقلين من قيادات المعارضة والحركة الحقوقية في البحرين. يرسُمُ كلٌ من الملك والأخت أم شريف عالميْن مختلفيْن. بحران يتجاوران
ولكن البرزخ بينهما يزداد إتساعاً وإرتفاعاً فلا يلتقيان.
تصف الأخت أم شريف بهدوء وواقعية بعض المخازي التي شاهدتها خلال ساعة واحدة وهي تنتظر الإتيان بزوجها ,الأمين العام لجمعية العمل الديمقراطي – وعد, إلى قاعة المحكمة العسكرية. فلقد شاهدت كيف تأتي الشرطة العسكرية بالمتهمين في مجموعات أو فرادى لمواجهة قضاة المحكمة العسكرية. و رأت بين المجلوبين أطفالاً وشباباً يافعاً في عمر إبنتها. ورأت بينهم شيوخاً في عمر أبيها. تجلب الشرطة العسكرية المتهمين بعد أشهر من المعاملة القاسية بما فيها التعذيب والتهديد بالإغتصاب فترى على وجوهههم واضحةً آثار الإذلال التي يصارعونها بما يستطيعون من شجاعة وما يستعيدون من عزة نفس.
أما القاضي فلا وقت لديه لسماع شكاوى المعتقلين والتحقق من التعذيب تعرضوا له على أيدي المحققين العسكريين أومن معاملة حاطة بالكرامة الإنسانية على أيدي سجانيهم. بل لا يهتم القاضي بمتابعة أسباب عدم قيام الشرطة العسكرية بإحضار عددٍ آخر من المتهمين المقرر محاكمتهم في ذلك اليوم. ولم يدفعه هذا إلى النظر فيإحتمال انهم لم يُحضروا للمثول أمامه لأن آثار التعذيب ما تزال على أجسادهم. يجد القاضي العسكري أعذاراً كثيرة. فأمامه مئات القضايا وهو في سباق مع الزمن قبل موعد إنتهاء حالة الطوارئ. وفوق ذلك فهو رجل عسكري يمتثل لأوامر قادته. ولهذا لا يجد القاضي غضاضة في أن يسلق أحكامه سلقاً و بالجملة. فليس ثمة مكان لضمير حين تكون مجرد برغي في آلة القمع لدى النظام. ولهذا أيضاً لا تأخذ كل حالة من وقت المحكمة العسكرية “أكثر من دقيقتيْن أو ثلاث بالكثير” كما تخبرنا أم شريف. ولهذا أيضاً لم يكن مستغرباً أن أغلب الأحكام الصادرة في ذلك اليوم كانت بالسجن لمدة ستة أشهر أو سنتين.
وتمضي أم شريف لتخبرنا بأن زوجها إبراهيم ومعه الأخ عبد الهادي الخواجه تحدثا عن تعرضهما “للضرب بعد جلسة الحكم في 22 يونيو لأنهما قالا ما قالاه بعد الحكم . فقد ربطوا أيدي ابراهيم خلف الظهر بالهفكري بشدة ، وأرغموه على الركوع على الركبة
ودفعوا رأسه الى الأرض وتناوبوا اللكم بالأحذية ، غير الضرب بالأدوات الأخرى. أما عبد الهادي الخواجة فلقد ضربوه على فكه حيث مكان العملية الجراحية ومن ثم أخذوه للمستشفى”. وحين إنتشر الخبر إدعت النيابة العسكرية عدم مسئوليتها و ألقت باللوم على الشرطة العسكرية . وكما العادة يكرر إعلام السلطة الكذبة المعتادة عن تكليف “جهة ما” بالتحقيق في الأمر وإحالة المخالفين إلى “التأديب”. فإذا كان مناضلان معتقلان في قامة الأستاذيْن إبراهيم شريف وعبدالهادي الخواجة يتعرضان للضرب لمجرد إعتراضهما على قرار المحكمة العسكرية بإدانتهما فأي نوع من المعاملة نتوقع أن يلقاها أولادنا وبناتنا الصغار وهم في قبضة محققي أجهزة الأمن والشرطة العسكرية؟
ما أبعد البحرين التي وصفتها اختنا فريدة غلام وهي تنتظر جلب زوجها إلى قاعة المحكمة العسكرية عن تلك البحرين التي
يصفها الملك في خطابه الأخير. فهو يصف بحريناًلا يعرفها الناس. وهي بحرينٌ لا يعرفها بالتأكيد أهالي من قُتلوا على أيدي القوى الأمنية التابعة لحكومة البحرين أو القوات السعودية قبل فبراير الماضي وبعده . ولا يعرفها بكل تأكيد من أصيب برصاص حي أو مطاطي أو بالقنابل المسيلة للدموع. ولا المفصولين من أعمالهم ولا من أهينت كراماتهم على أيدي الجنود الملثمين عند الحواجز الأمنية في شوارع البحرين وعلى مداخل القرى أو على أيدي لجان التطهير في أماكن العمل.
يبدأ الملك خطابه بالإشارة إلى أنه حرص “طيلة العشرة أعوام الماضية على إصلاح المؤسسات في البحرين” مؤكداً أن الدستور الحالي “يتماشى مع المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان والتي صادقت عليها المملكة”. حين تسمع تلك الكلمات وحين تعيد قراءتها تحتار في تحديد العالم الذي يعيش الملك فيه ومن صاغ له خطابه. وإلا كيف يصر الملك على إعتبار الدستورالمنحة متماشياً
مع متطلبات العصر وإحتياجات الناس؟ وكيف يرى متماشياً مع العصر دستوراً يعطي الملك صلاحيات تفوق ما كانت لدى أعتى السلاطين وأظلم الملوك في العصور الوسطى؟ ثم ألم يسمع من كتب الخطاب بإعتراضات الحقوقيين وخبراء القانون الدستوري في البحرين على دستور المنحة لعام 2002 ناهيك عن إحتجاجات قوى المعارضة منذ لحظة إعلان ذلك لدستور؟
يشير الملك إلى أن ما حدث في فبراير ومارس الماضيين لم يكن مسبوقاً في تاريخنا ولهذا فلقد آلمه كما آلم الناس وأصدقاء ومحبي البحرين. ومصدر الألم الملكي على ما يبدو هو إعتقاده بأن إنتفاضة 14 فبراير قد قامت رغم حرصه طيلة العشرة أعوام الماضية على إصلاح المؤسسات في البحرين و على أن يتماشى الدستور الحالي مع المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان والتي صادقت عليها المملكة. فالملك لا يرى في البحرين قمعاً ولافساداً ولا تسلطاً ولاتمييزاً ولا سوء إدارة ولا تبديد للثروة والسيادة الوطنيتيْن.
ولكن الملك يؤكد حكمة إلهية. فهو متيقن أن الله سبحانه وتعالى قد جمعنا “على هذه الأرض الطيبة إخواناً متحابين” ولنكون
جميعاً أعواناً للملك لكي يتمكن هو من حمل الأمانة ولكي يقيم حكمه حسب قوله على “مبادئ ميثاق العمل الوطني الذي أجمع
عليه أبناء شعبنا الوفي، وعلى قواعد العدل والشورى والدستور”.
حين تسمع الملك يكرر في خطابه الأخير أنه حرص عل إصلاح المؤسسات تحسبه يتحدث عن بلد آخر غير البحرين. نعم مرّت أكثر من عشر سنوات على التصويت على ميثاق العمل الوطني ولكننا ما نزال حيث كنا. بل لقد تراجعت الأوضاع وخاصة في العلاقات بين مكونات المجتمع. فتحت رايات “الإصلاح” إزداد تشطير المجتمع طائفياً ومناطقياً إلى إلى أسوأ مما كان عليه في الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي.
يتحدث الملك عن عشر سنوات من إصلاح لم يكن. فها نحن وقد مرت عشر سنوات ما نزال نعاني نفس العقبات التي عرقلت وتعرقل تحول بلادنا إلى دولة عصرية يحكمها دستور ديمقراطي يتوافق الشعب عليه. فما تزال الثقة معدومة بين الناس والسلطة رغم كثرة
المهرجانات وصخب المغنين ومنشدي القصائد في مدح هذا أو ذاك من أعمدة السلطة. وماتزال إستراتيجية التشطير العمودية تفتت المجتمع ومكوناته لتبقى العائلة الخليفية الطرف الوحيد القادر على الإمساك بخيوط نسيج المجتمع.
عشر سنوات من التكاذب حول الإصلاح وما تزال السلطة متمسكة بهيمنتها شبه التامة على الخطاب السياسي والثقافي عبر سيطرتها الفعلية على وسائل الإعلام . عشر سنوات من التكاذب حول الإصلاح وما تزال البلاد تعاني من آثار غياب أي جهد جدي لتوفير الآليات القانونية والإجرائية اللازمة لإنهاء أشكال التمييز الجمعي القائم على انتماءات الأفراد الاثنية أو الدينية أو الجنسية. وبطبيعة الحال زادت خلال العشر سنوات الأخيرة الامتيازات التي يتمتع بها أبناء وبنات العائلة الخليفية. وهي إمتيازات لا تتوافق مع روح العصر ولا مع أي طموح لبناء دولة عصرية ولا يسندها قانون ولا نص دستوري بل تشكل جزءً سيئاً من موروث قبلي يعتبر البلاد غنيمة غزو.
بدلاً من الإستناد إلى شرعية دستورية تقوم على رضا الناس تصر السلطة على إستخدام سيف المعز وذهبه لضما إستقرار سطوتها على البلاد والعباد. لكن هذا الإستقرار كما شهدنا طوال أكثرمن ستة عقود هو إستقرار خادع وغير مضمون. فما أكثر الهزات الدورية لتي شهدناها وما أقسى تبعاتها على الناس. وحتى حين لجأت السلطة إلى الإستعانة بسيف النظام السعودي وخبراته الواسعة في القمع لم يتحقق للسلطة ما أرادته فما زال الأزمة مستمرة بمظاهرها المختلفة. بل ثمة مؤشرات تبين أن وضع السلطة بعد التدخل العسكري السعودي صار أسوأ مما كان عليه قبله. نعم خسرت المعارضة مساحة على الأرض وما زال كثيرون من قادتها يقبعون في معتقلات السلطة. إلا إن المعارضة, بفصائلها المختلفة, تستطيع الآن أن تتطلع إلى حراك جديد يقود إلى إنجازات سياسية أوسع بكثير مما كانت تتوقعه قبل أشهر.
يؤكد الخطاب الملكي الأخير أن الملك ومن حوله بقية أعمدة العائلة الخليفية مصرون على تجاهل إن منبع كل المشاكل والأزمات التي تعاني البلاد منها يكمن في إن السلطة القائمة هي سلطة أمر واقع لا تستند إلى شرعية شعبية. وهنا مربط الجمل. فبدون تحول سلطة الأمر الواقع إلى سلطة شرعية سيتفاقم القصور البنيوي في بنية النظام السياسي وستستمر البلاد والناس فيها تدور فيما إعتبرته
أختنا فوزية مطر في مقال منشور لها قبل أيام “حلقة مفرغة” . أي أن البحرين ستبقى ضحية “محطات انفجار احتجاجات دورية يأتي بها كل عقد من الزمن تُسفك فيها دماء وتُقدم تضحيات ويفقد الوطن والمواطن عديد المنجزات وتتأخر التنمية. وما بين محطة وأخرى تتعمق جراح وآلام ويتراكم غضب وحقد ينذر بمحطات انفجار أخرى أكثر إيلاماً وأشد قسوةً ومرارة”.
هذه الحلقة المفرغة لست جديدة. فمن ينظر إلى تاريخنا طوال ستة العقود الأخيرة يراها كما بالفعل سلسلة من محطات الإنفجار
الدورية , حسب تعبير أختنا فوزية مطر. فهذا هو سلك السلطة وهذا هو نهجها الثابت. ولعل من المفيد هنا أن أستعيد ما كتبه أحد رجال هيئة الإتحاد الوطني .أسارع للقول أن الظروف السائدة الآن تختلف عما كانت عليه وقتها. إلا أن الحلقة المفرغة من الهزات الدورية ما زالت سائدة و إن إختلفت عناصرها وأسبابها.
قبل أكثر من سبع وخمسين سنة لاحظ يوسف الفلكي في كتابه “قضية البحرين بين الماضي والحاضر” (ص 25) أن من يتتبع تاريخ البحرين من “الفتح” الخليفي يجده حسب قول الكاتب “سلسلة متصلة من الحروب والثورات والفتن والإضطرابات فهم (أي آل خليفة) أما مهاجِمون أو مهاجَمون, فإذا أعْوزهم أن يجدوا من يهاجمهم أو يهاجمونه وجهوا شرَّهم إلى أهالي البلاد فأذاقوهم صنوف الظلم والإضطهاد, حتى شتتوهم تحت كل أفق أو حاربوا أنفسهم بأنفسهم. لقد كانوا كالنار تأكل نفسها أن لم تجد ماتأكله”. ويمضي المؤلف, ليسرد في بقية الفصل أمثلة على ما يقول تاركاً القارئ “أن يستنتج منها رأيه الخاص في مدى إفادة شعب البحرين من وراء حكم الخليفة”.
بطبيعة الحال لا يرى الملك هذه البحرين التي وصفها الفلكي ولا البحرين التي تعاني من الهزات الدورية. فبحرين الملك تختلف جذرياً عن البحرين التي يعرفها الناس والتي شاهدتها أختنا أم شريف في قاعة المحكمةالعسكرية وهي تنتظر الإتيان بزوجها ورفاقه المناضلين من أجل بناء الدولة الدستورية ليواجهوا جلاديهم.
عبدالهادي خلف
8يونيو 2011
بارك الله فيك… و سلمت يمناك..
يذكرني مقالك .. بما قاله الملك ” الأيام الجميلة لم نعشها بعد”
فلا أعرف أي الأيام التي كان يقصدها !؟
شكراً لك أبا رسول على تحليلك ولقلمك المبدع.
شكرا عزيزي الدكتور عبد الهادي ، دائما كتاباتك رائعة ومؤثرة وتربط العناصر ربطا محكما ..
وشكرا لأنك بمقالك أعطيتني شهرة واسعة وربما ذما واسعا أيضا من غير المحبين ..
شكرا لك ايها الصديق
أم شريف
أحشى اذا استيقظ حمد من حلمه,أن يفقد عقله
نعم يا دكتور فبحرين صاحب الجلالة تختلف كليا عن بحرين قرى شارع البديع الآيلة للسقوط… و الذين اخذتهم أحلامهم بذلك الوطن الجميل إلى وسط العاصمة ليلاقوا مصيرهم المحتوم
تحياتي لك يا دكتور
أحمد عبدالأمير
فبحرين صاحب الجلالة تختلف كليا عن بحرين شارع البديع و قراه الآيلة للسقوط، فكانت إنتفاضة 14 فبراير و الإعتصام بوسط المنامة ليروا العالم وضعهم المزري و ليواجهوا مصيرهم المحتوم
تحياتي لك دكتور
أحمد عبدالأمير
Indian drama !!!!
who break the law must be punished !!!
no more no less !!!
نحن نحتاج إلى عبدالهادي خلف الآن أكثر من أي وقت مضى .. كم تحن إليك ديارك
شكرا لكم وننمتى موالصتكم للتحليل من اجل وطنكم