أيسرق أحدٌ مُلْكه؟
إعتبر النائب عبداالله العالي تقرير لجنة التحقيق البرلمانية في أملاك الدولة إختباراً حقيقياً للمشروع الإصلاحي (الوقت 12 أبريل 2010). وأحسبُ إنه يعني أن كيفية تعاطي السلطة مع التقرير ستكشف مدى جدية أو عدم جدية إلتزام السلطة بإلتزاماتها التي عدده ميثاق العمل الوطني. لم يخطئ النائبُ ولكنه ربما إحتاج إلى إضافة كلمة "آخر" إلى ما قاله. عندها سيعرف الناس أنه يقصد أن تقرير اللجنة هو إختبار آخر من سلسلة إختبارات لم تنجح السلطة فيها. وهي إختبارات تتالت حتى قبل أن يجف الحبر الذي بَصَمَت به الناس ميثاق العمل الوطني.
ألم يكن المرسوم رقم 56 إختباراً حقيقياً للمشروع الإصلاحي؟ ألم يشكل تقنين الإفلات من العقاب والمحاسبة إختباراً حقيقياً للمشروع الإصلاحي؟ ألم يكن قانون الجمعيات إختباراً حقيقياً للمشروع الإصلاحي؟ ألم يكن إعلان الدستور المنحة من طرفٍ واحد إختباراً حقيقياً للمشروع الإصلاحي؟ ألم تكن الصناديق العامة إختباراً حقيقياً للمشروع الإصلاحي؟ ألم يشكل الإستخدام المفرط للعنف من طرف الشرطة كما شاهدتُ شخصياً بالقرب من جبَّانة جدحفص إختباراً حقيقياً للمشروع الإصلاحي؟ لولا ضيق هذه المساحة لعدَّدتُ عشرات الأسئلة والأمثلة على إمتداد العشر السنوات الماضية. فماالذي يحتاجه النائب عبداالله العالي حتى يعلن رسوب المشروع الإصلاحي في كل الإختبارات التي دخلها؟
لا أعرف من أين يأتي تفاؤل هذا النائب أو ذاك في أن السلطة ستنجح في هذا الإختبار بعد أن رسبت في عشرات قبله؟ فحاشاهم من قولة "عنزةٌ وأن طارت". ومع ذلك ها هوَ عبدالجليل خليل رئيس لجنة التحقيق البرلمانية نفسه يحاول إقناعنا بأن المسالة لا تعدو عن خطأ يمكن تصحيحه. ولهذا رأيناه يأمل أن تتقبل "الحكومة" دعوته لها "إلى التحلي بالشجاعة والإعتراف بالخطأ وإتخاذ الخطوات الحقيقية للتصحيح". (أخبار الخليج 23 مارس 2010).
لا أستصغر ما قامت به لجنة التحقيق البرلمانية. فلقد صارت الناس تعرف بالارقام ما كانت تتحسسه بمعايشتها اليومية. وصرْنا الآن نعرف أين تقع في مدينة المحرق تلك الكيلومترات المربعة التي نُهبت بعد أن كانت مخصصة لمشاريع الإسكان. وصرْنا نعرف مواقع كيلومترات مربعة أخرى نُهبت في كرانة والسنابس والمدينة الشمالية ناهيك عن مثلها في مدينة المنامة وفي فرضتها القديمة. وصُرنا نعرف الكثير مما نهب ولا نعرف أسماء من نهبوا. نعم تتردد أسماء هذا وذاك وتلك. ولكن لجنة التحقيق تركت المجال مفتوحاً للتكهنات. أقول صرنا نعرف بالأرقام ما كنا نعرفه بدونها. الآن صرنا نعرف بالأرقام ما كانت الناس تعرفه بمعاناتها اليومية. بلادنا مزرعة وهي ليست لكل أهلها.
أكتب هذه الكلمات وأنا أتذكر حكايات كانت تجول في أحيائنا وكان يرددها في خفية متوجسة كبارُ أهلنا. بعض تلك الحكايات تتعلق بأحد "المتنفذين" من ذوي الصيت وقد كان لا يتوانى عن وضع اليد على أية أرض تستهويه. إحدى تلك الحكايات تتعلق بعقارٍ في وسط المنامة الآن وقد بناه أحد أثرياء المنامة على أحسن وجه بهدف إستثماره سياحياً. إلا أنه لم يهنأ بذلك العقار طويلاً. فلقد جاءه "المتنفذ" المذكور وعرض أن يشتري العقار بأقل من نصف سعره في السوق. فرد الثري المنامي بأن الشراء بذلك السعر مثل البوﮚ. فرد المتنفذ بلهجته الآمرة الناهرة مستنكراً " يَه…. إيبوﮚ الواحد مُلكه؟". ففهم المناميُّ أن المقصود أن البلاد كلها هي غنيمةُ سيفٍ فما بالك بعقارٍ فيها. إنتهت تلك الحكاية بأن إستملك المتنفذ ذلك العقار وبالسعر الذي أراد. لم يشتكِ أحدٌ ولم تحتج الناس بل ولم ترَ في الأمر عجباً. فهذا هو سلك البلد. وحيث لا دولة ولا قانون وحيثُ المُشتكى لله وحده سبحانه.
لماذا فعل ذلك المتنفذُ ما فعل؟ وعلامَ إستند حين تساءل مستنكراً "إيبوﮚ الواحد مُلكه؟" بل لماذا أذعن ذلك الثري المنامي؟ وعلامَ إستند الناس حين لم يستنكروا ما حدث؟ ولمَ لمْ يجدوا طائلاً ناهيك عن سببٍ للفزعة لذلك الثري؟ أجدُ أجوبة هذه الأسئلة وأمثالها في جهتيْن. أولاهما تتمثل في النتائج المتراكمة عن غياب الدولة وعن إستمرار الأطراف المتنفذة في المجتمع في عرقلة محاولات بناءها.
لا تقوم الدولة بمجرد إعلان قيامها وتصميم علمها ونشيدها الوطني. بل هي تقوم على مؤسسات وقوانين وأنظمة متعارفٌ على شرعيتها علاوة على ما تؤسس له وتحميه من حقوق وإلتزامات وإستحقاقات. أما الجهة الثانية فتتمثل فيما أسميه بموروث "الفتح/الغزو" . ففي هذا الموروث تتداخل السرديات التي تزهو بحق السيف وتُشرعِن الغنيمة مع السرديات التي تأملُ أجراً على صبرها على مظلومية سيزيلها الفرج الآتي بلا ريْب. نعم هي سرديات متباينة في ظاهرها لكنها تتكامل لتؤسس قاعدة لفهم ممارسات السلطة وأطرافها من جهة و السلوك السياسي المدجن للنخب التقليدية منها والمستحدثة. فحين نتابع تفاصيل العلاقة بين الطرفيْن نرى مساراً ثابتاً وأن متعرجاً لتاريخ من أفعال الإخضاع من طرف وسلوكيات الخضوع من الطرف الآخر. هذا هو سلك البلد وهذا هو موروث "الفتح/الغزو" .
أستعيدُ المعاني التي يتضمها السؤال: "إيبوﮚ الواحد مُلكه؟" حين أستعرض ما قيل على هامش مناقشة تقرير لجنة التحقيق البرلمانية. فهنا يمكن ملاحظة كيف تفعل فعلها سرديات موروث "الفتح/الغزو". فلقد قرأنا وسنقرأ تصريحات عنترية كثيرة ولكنها لا تسمي من أستملك ولا من نهب. بل ولا تطالب بمحاسبة أيٍ من هؤلاء وإستعادة كل ما أستملكوه أو نهبوه بعد تغريمهم ما يعادل قيمة السنوات وربما العقود من وضع اليد على المال العام والأرض المشاع. أقولُ تفعل سرديات موروث "الفتح/الغزو" فعلها حين نرى نوابنا وبعض قادة الرأي في البلاد يرفعون رايات النصر المبين لمجرد أن الديوان الملكي أعلن عن تشكيل "لجنة من الوزارات المعنية بمحاور تقرير لجنة التحقيق البرلمانية".
لا أستصغر ما قامت به لجنة التحقيق البرلمانية في أملاك الدولة فلقد كشفت "المستور" حسبما ردد كثيرون. ولا أشكك في إن أحوالنا تغيرت عما كانت عليه قبل عقود. فقبل التصويت على الميثاق لم تكن الناس تتحدث علنا عما تعانيه. أما الآن فمسموحٌ للنواب أن يكشفوا بعض المستور. أن إلا أن السؤال يبقى ماذا بعد كشف المستور؟ ماذا سيفعل النواب بعد أصدرت لجنة التحقيق البرلمانية تقريرها؟ أو على الأصح ماذا يستطيع النواب أن يفعلوا غير الدعاء بحسن الختام وإنتظار أن يفعل "راعي المشروع" ما يراه مناسباً؟
جاء إعلان الديوان الملكي فرجاً لنوابٍ لا يعرف بعضهم أين يذهبون بتقريرهم ولا يتجرأ من يعرف منهم أن يفعل شيئاً. ولهذا رأينا مدى ترحيب الكتل النيابية بدون إستثناء بتشكيل اللجنة الوزارية "لدراسة توصيات لجنة التحقيق والوصول إلى ما يعيد أي تجاوز إلى نصابه". فهو قرارٌ يستجيب لدعوات وجهها النائبان عبدالجليل خليل و إبراهيم بوصندل وغيرهما من النواب الذين إعتبروا أن المسألة لا تعدو أن تكون خطأ يمكن تصحيحه. إلا إنني حين أتمعن في تشكيلة اللجنة الوزارية لا أتخيل أن يكون تقريرها سوى نسخة مطورة عما قاله ذلك المتنفذ: أيسرق احدٌ مُلْكه؟
عبدالهادي خلف
تحيتي لك ايها البعيد القريب مناعادل مرزوق